كان كبار السن أقمارًا؛ زيّنوا المسجد الذي أصلي فيه. كانوا أعمدة؛ رفعوا سماءه، ورواسي؛ ثبّتوا أرضه؛ فلا أخشى تخلفهم، ولا أتوقع تقلبهم. عرفت اختلاف آرائهم، واضطراب رغباتهم، فاتخذت لكلٍّ لباسه، وقدرت لكل قياسه، فأنست بهم كلهم وأحببتهم، فكانت خطواتهم بعصيهم من أحسن الجرس، وتنحنحهم ودعواتهم من أعذب الصدى. كان التعامل معهم درسًا في ضبط النفس، وفي التأني والصبر، وفي ترك الجدل وإن حضرت الحجة، وفي التنازل مع القدرة. أصغرهم قد ناهز السبعين، وأكبرهم في عشر المائة. لقد كانوا علامة فارقة لمسجدنا، تميَّز بها عما حوله من المساجد. وهم وإن كانوا أكثر الجماعة ففي المسجد شباب وكهول، ومنهم بعض طلاب شيخنا محمد بن عثيمين، يصلون معنا في غير أوقات الدرس.
وقد أفدت من بعض هؤلاء الطلبة، كالشيخ يحيى إبراهيم خليل، التشادي بلدًا، قرأ عليّ في الصرف والعروض، فكانت قراءته درسًا لي في الانضباط والحرص والمثابرة؛ فأفدت منه أكثر مما أفاد مني.
وفي عام 1419هـ انتظم معنا أحد هؤلاء الطلاب، لكنه مختلف عنهم، في سنه وهيئته، وسمته ومنطقه، وفي علاقته الطيبة مع الجماعة، ومعي خاصة؛ فكان حلو الحديث، واسع الثقافة، متقد الحماسة، وإن كان قد ناهز الخمسين.
الدكتور صالح بن شحادة الصالح (1370-1429هـ) فلسطيني الأصل، أمريكي الجنسية، حاصل على الدكتوراه من جامعة أوهايو في العلوم، بعد رحلة علمية شاقة، بدأها في مخيم عين الحلوة للاجئين، حيث كانت أسرته تسكن بعد النكبة عام 1948م. ولشغفه بالعلم، وتطلعه إلى الارتقاء في سلمه ما استطاع، واصل تعليمه، ودخل مدارس الأنروا في المخيم، ثم واصله في صيدا، ثم في الجامعة اللبنانية في بيروت، وشرع بعد التخرج فيها متفوِّقًا بالتدريس في مدارس الأنروا، غير أن تطلعه إلى الاستزادة من العلم لم يَهِن؛ فسافر إلى أمريكا، ونال الماجستير والدكتوراه.
لم تكن الرحلة سهلة، وكان سرده لأحداثها جميلاً آسرًا، يغري الفضول، ويملك الشعور، ويحرك كامن الهمة، ويزرع الأمل في الأرض الهامدة.
قدم إلى المملكة عام 1412هـ، وكانت بريدة أول ما احتضنه منها، فعمل في دعوة الجاليات؛ فقد سخّر نفسه للدعوة، خاصة دعوة النصارى، وألّف في ذلك الكتب، وترجمها، كما استعمل التقنية الحديثة حينما تيسرت، فكانت له غرفة في برنامج (البالتوك)، يدعو فيها إلى التوحيد، وأسلم على يديه فيها خلق كثير.
تفرغ لطلب العلم عند شيخنا محمد بن عثيمين سنوات عدة، واختار القرب منه فنزل عنيزة من عام 1419هـ، في الحي الذي يجمعنا جميعًا وشيخنا، وكان يترجم له عند الحاجة إلى الترجمة، ثم التحق بجامعة القصيم أستاذًا مساعدًا في الأحياء الدقيقة عام 1420هـ، ولم يشغله شاغل عن هدفه الأول، وهو دعوة غير المسلمين، حتى بلغ عدد مؤلفاته وترجماته في الدعوة أربعة عشر كتابًا ورسالة. أما في تخصصه فقد نشر أكثر من عشرين بحثًا علميًّا محكمًا، وترجم ثلاثة كتب، وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية المتخصصة.
في الفترة التي جاورنا فيها د. صالح عرفتُ ما لم أكن أعرفه عن فلسطين، تاريخها الحديث، وجغرافيتها، وعرب (الجليل) أو (عرب 48)، وهو واحد منهم، وكان جرح فلسطين ينفتق حينًا بعد حين، انقسامًا بين الفصائل، أو عدوانًا إسرائيليًّا على غزة أو الضفة، ومع هذا كله لم يكن يحفل بالأحزاب السياسية، ولا الشعارات الحزبية، كان سلفيًّا قلبًا ويدًا ولسانًا، لم يتأثر بما تأثر به الحركيون، ولم ينصب نفسه مدافعًا عن شيء من تلك الأحزاب والجماعات... شيوعية كانت أو قومية أو إسلامية، لقد شُغل بالعلم، والدعوة إلى الله وتوحيده، وترك ما سواها من الزبد الذي سرعان ما يذهب جفاءً.
وقد كان محبًّا لهذا البلد (المملكة العربية السعودية)، منتصرًا لها، ومدافعًا عنها فيما يمرّ بين يديه من إساءة، مهما كانت صغيرة.
ومن ذلك حدث وقع معي، حيث التقى أحد الأقرباء صحفيًّا غربيًّا في أحد المنتديات التي أُقيمت في المملكة، وجرى بينهما على هامش المنتدى حديث طال وتشعّب، حتى طلب ذلك الصحفي أن يزور (القصيم) موطن هذا الذي التقاه، وصار بينهما صحبة، فأجابه قريبنا إلى طلبه، وطلب مني أن أستضيفهما ساعة من ليل أو نهار، وكانت تصحب الصحفيَّ زوجتهُ، فاستقبلتهم، واستقبل أهلي أهلَه، ودار الحديث حول أمور متعددة. كان حديثًا معتادًا، لا يتوجس منه المتوجس، ولا يخشى من عاقبته الحذر. أمضينا قرابة الساعة، ثم ودَّعونا.
وبعد أسابيع عدة اتصل بي هذا القريب، وأخبر أن ذلك الرجل صحفي، وقد كتب عن زيارته للمملكة مقالاً، نشره إلكترونيًّا، وتعرض فيه لذكر استقبالك له، وذكر لي مقتطفات من مقاله، وطلبت منه نسخة من المقال.
عرضت المقال على د. صالح، فقرأه بعين أخرى، ووقف عند كلمات فهم منها انتقاص المنطقة، أو اتهامها، أو الاعتراض على بعض العادات الإسلامية في شأن المرأة، ثم استأذنني أن يراسل الناشر، ويطالب الكاتب بالاعتذار، ويتولى هو متابعة ذلك؛ لأن فيه كما يقول إساءة ظاهرة!
في صباح يوم الجمعة الأول من شهر صفر عام 1429هـ سافر ومعه عائلته إلى المدينة المنورة، وكان وصولهم قبيل الأذان الثاني، فاتجهوا إلى المسجد النبوي مباشرة، وما إن انقضت الصلاة حتى شعر بتعب شديد إثر هبوط شديد في السكر؛ استدعى نقله إلى مستشفى الأنصار، وتوفي في ساعته، ودُفن في البقيع. رحمه الله رحمة واسعة.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم