نبكي على الدنيا وما من معشرٍ
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
ففي عصرنا الحاضر أخذت وسائل الإعلام الحديثة المسموعة والمنظورة تحمل في ثنياها عاجل الأنباء السارة المفرحة.. وأحيانًا المحزنة التي يبقى رنينها مدويًا في شعاب النفوس أزمانًا طوالاً. ولقد أبلغني أحد أبنائي معزيًا بوفاة حبيبنا وصديقنا الشيخ العالم الأديب عبدالعزيز بن العلامة الشيخ الكبير محمد بن فيصل المبارك، الذي انتقل إلى الدار الآخرة في يوم الأحد 18-1-1442هـ، وأُديت الصلاة عليه يوم الاثنين 19-1-1442هـ، ثم ووري جثمانه الطاهر بمقبرة الجفالي بالطائف -تغمده المولى بواسع رحمته-. وقد سبق أن بادرني بالمهاتفة منذ شهر -تقريبًا- ليطمئن على صحتي، ويسأل عن أسرتي بصوته الهادئ المعروف، ولم يدُر بخلدي ولا بخلده أنها آخر محادثة ودية جرت بيني وبينه -رحمه الله-:
الدهر لاءم بين ألفتنا
وكذاك فرق بيننا الدهر
فكل صفو يعقبه كدر لمن عاش في الدنيا.. وهذه سُنة الله في خلقه -جل ثناؤه- فعزى الفؤاد عزاء جميلاً. ولقد أهل على الدنيا في مهوى رأسه بلد آبائه وأجداده حريملاء في عام 1349هـ، وتربى بين إخوته وأقاربه.. وعاش في كنف والده العلامة الشيخ العالم الكبير الشيخ محمد بن فيصل المبارك، بل إنه تلقى مبادئ العلم لديه بمسجد (موافق) بحريملاء مع عدد من أقرانه، وذلك بعدما درس بمدرسة الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم لدى الشيخ المقرئ محمد بن عبدالله الحرقان، عميد معلمي الكتّاب آنذاك -رحم الله الجميع-. وبعدما أنس بقدرته على مسايرة زملائه في المعهد العلمي بالرياض رحل من حريملاء، والتحق بالمعهد هناك.. واستمر به مواصلاً الدراسة بكلية الشريعة حتى نال الشهادة العالية بامتياز عام 1378هـ، وكان طيلة مراحله الدراسية محل التقدير والاحترام لدى معلميه وزملائه لما يتحلى به من هدوء طبع ووقار، وخلق كريم، وأدب جم رفيع، ثم عُين قاضيًا بميناء سعود والخفجي بالمنطقة المحايدة عام 1380هـ. بعد ذلك انتقل إلى محكمة الدمام.. فنمت علاقة التواصل معه ومع كبار موظفي الدولة هناك.. أمثال أمير المنطقة الشرقية الأمير الحازم سعود بن عبدالله بن جلوي، ومعالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان ممثل الحكومة لدى شركة أرامكو، ورئيس مكتبه الخاص الشيخ الكريم حمد بن علي المبارك، وغيرهم من الرجال الوجهاء - رحم الله الجميع -. فالشيخ القاضي عبدالعزيز(أبو سعود) محل التقدير والاحترام لدى الجميع لما وهبه المولى من خلق كريم، وعلم غزير، وطول باع في مجال الثقافات العامة والأدب الرفيع. وقد ترامت به الأيام في عدد من المواقع المشرفة متنقلاً في جوانب الوطن حيث عمل رئيسًا لمحاكم المنطقة الشمالية مدة طويلة. وقد عُرف عنه رحابة الصدر، ولين الجانب، والحرص على منفعة الغير. كما أن الكثير من القضايا تتم بالمصالحة والرضا بين المتخاصمين؛ وذلك لبُعد نظره، وحنكته، ودرايته بأحوال الكثير من الناس، وما يترتب على ذلك من تآلف ومحبة يدوم مداها.. داعين له بالسعادة ودوام التوفيق:
فأحيي ذكرك بالإحسان تزرعه
يُجمع به لك في الدنيا حياتان
بعد ذلك عُين قاضي تمييز في محكمة مكة المكرمة.. بخاتمة عمل سعيدة قضاها مجاورًا لبيت الله الحرام، ثم أخلد للراحة متقاعدًا في عام 1410هـ حميدة أيامه ولياليه تاركًا ذكرًا حسنًا، يبقى خالدًا في نفوس زملائه ومجتمعه مدى الأيام.. ولنا معه ذكريات جميلة، لا تغيب عن الذاكرة مدى العمر؛ إذ سعدنا بمجاورته في «حي العجلية» غرب شارع العطائف بالرياض أيام دراستنا بكليتَي الشريعة واللغة العربية من عام 75-1378هـ حتى أنهينا الدراسة العالية حامدين المولى -جل جلاله- على ذلك. وكنت أزوره في منزله فيعيرني من بعض الكتب الأدبية النفيسة.. فهو قارئ يديم تسريح نظره في بطون الكتب المفيدة، التي تضم بين دفتيها درر الحكم والأمثال.. بجانب كتب المقررات الدراسية.. مما حبب إليّ مبكرًا اقتناء الكتب الأدبية، ودواوين الشعر الفصيح الحافلة بالمعاني الجزلة ضافية الأخيلة والأساليب البلاغية. ولن أنسى حلاوة تلك الأيام ما حيينا مع (أبو سعود)، كما لا أنسى الزيارات المتكررة له في قصره الرحب وصدره الأرحب، الواقع قرب مطار الحوية بالطائف، كلما نحضر في الإجازات الصيفية.. متذكرًا أيام دراستي بدار التوحيد عامَي 71-1372هـ في هاتيك الأجواء اللطيفة والدار جامعة لنا مع أولئك الزملاء الأحبة الذين غاب معظمهم عن نواظرنا -رحمهم الله وأسعد من بقي منا-. ولإن غاب عنا (أبو سعود)، وبات تحت طيات الثرى، فإن ذكره الحسن باقٍ بين جوانحي مدى العمر.
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم أبناءه وبناته وعقيلتيه وأسرته (أسرة آل مبارك) ومحبيه الصبر والسلوان.
وبارك الله في الأرض التي ضمنت
أوصاله وسقاها باكر الديم
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف