هناك خمسة موجهات سيتم استخدامها كمحددات رئيسية وفارقة في صياغة (عالم ما بعد كورونا)، وهذه الموجهات سياسية، واقتصادية، وبيئية، واجتماعية، وتقنية. ولهذه المحددات أثر ارتباطي لعالم ما بعد كورونا وهو ظهور بنية تحتية إنتاجية عالية الأتمتة باستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها، وهذا سوف يخلق ثقة أكبر في قطاع التكنولوجيا وما يقدّمه من تسهيلات وخدمات في شتى مجالات الحياة.
فالتغيّرات المتوقّعة في الجانب التعليمي في عالم ما بعد كورونا ستكون كبرى وهيكلية في أنماط التعليم وأساليبه وتوجهاته وسياساتها ونظمه ومكوناته سواء على صعيد التعليم العام أو التعليم الجامعي. فوفقاً لتقرير اليونسكو فإن أكثر من 188 دولة علقت الحضور للمدارس، وعدد الذين انقطعوا عن الدراسة في العالم بسبب كورونا يقارب ملياراً وثلاثمائة وأربعاً وأربعين مليون نسمة، أي 82.5 % من طلاب العالم، من بينهم قرابة 83 مليون طالب في الدول العربية. البعض من هؤلاء تلقوا تعليماً غير مكتمل باستخدام بعض الأدوات التقنية، وبعضهم لم يتلق تعليماً مطلقاً خلال تلك الفترة. وهذا راجع إلى الدول وإمكانياتها. كما أن آليات التقويم اختلفت من دولة إلى أخرى. ولا شك أن عودة الطلاب لمقاعد الدراسة لن تتم كما كانت في السابق، ومن المتوقّع أن يكون لدى الدول ضوابط ومعايير صحية للطلاب وآلية اختلاطهم المستقبلي مع أقرانهم.
والمتتبع للأبحاث والدراسات والسيناريوهات المتوقّعة بعد كورونا على مستوى الدول يجد أن هناك أنماطاً جديدة في التعليم تعتمد على استخدام التقنية، وهذه الأنماط وتطبيقها مرهون بجاهزية وقدرة المؤسسات التعليمية والوزارات على التطبيق، وبخاصة البدء باعتماد نمط التعليم الجديد، سواء أكان تعليماً عن بعد أم تعليماً إلكترونياً، أم تعليماً مدمجاً، ووضع أساليب الاختبارات والتقويم، وكذلك تغيير السياسات والتشريعات داخل الوزارة أو المؤسسة لاعتماد هذا النمط من التعليم، وأول هذه التشريعات هو الاعتراف بما يُسمى بالتعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني، أو التعليم المدمج، أو التعليم باستخدام الروبوت.
وعلى الرغم من أن المقاومة لهذا التعليم لم تعد كقوتها في السابق، إلا أنه يمكن القول إنه تحقق للتعليم عن بعد والتعليم الإلكتروني في شهرين ما عجز المختصون عن تحقيقه في عقدين، وبخاصة إقناع صنَّاع القرار. ولعل من أهم التغيّرات في المستقبل أن التعليم القادم سوف يعتمد على التقنية والمحتوى المتميز وليس على المباني؛ لذا يحب الاستثمار في المحتوى الإبداعي المشاع أكثر من الاستثمار في المباني المدرسية. وبشكل موجز، فإن من أهم الأنماط التي سوف تبرز في القريب العاجل في مجال التعليم (جميعها سوف تستخدم التقنية بدرجة متفاوتة) ما يلي:
** أولاً: نمو نمط التعليم عن بعد: بصفة عامة سوف تقوم الدول والوزارات والمؤسسات باعتماد نمط التعليم عن بعد في تشريعاتها وسياساتها وكذلك تطبيقه في مؤسساتها، لاسيما أن قطاع الأعمال -قطاع التوظيف- بدأ بتطبيق العمل عن بعد والاعتراف به. والتعليم عن بعد له أنماط كثير في آليات التطبيق، وأسهل نوع من هذا هو نقل المعلومة عبر الوسائل التقنية للطلاب كوسيلة مساعدة وليست أساسية.
** ثانياً: نمط التعليم الإلكتروني: التعليم الإلكتروني هو طريقة للتعليم باستخدام آليات الاتصال الحديثة من حاسب وشبكاته ووسائطه المتعددة من صوت وصورة، ورسومات، وآليات بحث، ومكتبات إلكترونية، وكذلك بوابات الإنترنت سواءً كان عن بعد أو في الفصل الدراسي، والهدف هو استخدام التقنية بجميع أنواعها في إيصال المعلومة للمتعلم بأقصر وقت وأقل جهد وأكبر فائدة، وهذا النوع من التعليم سوف يسود معظم المؤسسات التعليمية، حيث إن هذا قد يتم داخل غرفة الدراسة، وقد يكون عن بعد، فجيل الألفية الجديدة لا يستطيعون الاستمرار في نمط التعليم التقليدي، لاختلاف منظومة القيم لديهم وتنوع أساليب التعلم عندهم وكيفية عمل الذاكرة والانتباه والتشتت وغير ذلك .
** ثالثاً: نمط التعليم المدمج: من بين نماذج التعلّم الإلكتروني يبرز التعلّم المدمج الذي يجمع بين التعليم المعزّز بالتقنيات والتعليم المباشر (وجهًا لوجه). وقد ازداد انتشار مصطلح «التعلّم المدمج» بشكل متسارع في كل من المؤسسات الأكاديمية والشركات. وفي الوقت الراهن، أثبت التعلّم المدمج بأنه مستقبل التعليم في المدارس والجامعات حول العالم. فقد خلصت عدد كبير من الدراسات التحليلية المنشورة في السنوات العشر الأخيرة التي حللت مئات الدراسات عن فاعلية التعلم المدمج إلى أن التعلّم المدمج أكثر أو على الأقل مساو في الفاعلية للتعلم التقليدي، وقد توصلت دراسة حديثة أجرتها مجموعة الـEDUCAUSE الأمريكية، وشملت 213 معهداً وجامعة في أمريكا إلى أن التعلّم المدمج أصبح فعلياً هو نظام التعليم السائد في هذه المؤسسات التعليمية، وغالبية الطلاب يرون أن التعلّم المدمج يدعم بصورة فعالة طريقة تعلمهم.
وتؤكد منظمة اليونسكو على أن التعلّم المدمج منهجاً قيماً للمساعدة في تعزيز التعلم ويحقق هدف التنمية المستدامة الرابع المعروف باسم التعليم Education 2030، وهو ضمان التعليم الجيد والمنصف وفرص التعلّم مدى الحياة في جميع أشكال التعليم الرسمي وغير الرسمي. كما يشير تقرير الرابطة الأوروبية للتعليم الجامعي عن بُعد (EADTU) إلى زيادة عدد الجامعات التي تتبع نموذج التعلّم المدمج في تعليمها. ويرجع ذلك لزيادة استخدام التكنولوجيا في التعليم، وارتفاع مستوى المهارات التقنية لدى كل من المدرسين والطلبة. و هو كذلك التوجه السائد في التعليم العالي لأن الجامعات لا تحبذ فكرة التخلي عن التعلّم المباشر (وجهاً لوجه) في برامجها، وخاصة برامج البكالوريوس والماجستيير، كما ذكر ذات التقرير أن التعلّم المدمج هو النموذج المثالي لمواجهة ازدياد عدد الطلبة المنتسبين في مؤسسات التعليم العالي، كما يساهم في زيادة مستوى جودة العملية التعليمية. والذي أميل إليه أن هذا النوع من التعليم هو الذي سوف يستخدم في المؤسسات التعليمية على مستوى العالم، سواء في التعليم العالي أو التعليم العام، لذا يجب البدء للإعداد والاستعداد لهذا النوع من التعليم.
** رابعاً: نمط الذكاء الاصطناعي: يعزِّز الذكاء الاصطناعي التقدّم في مجال علوم الحاسب بهدف صناعة آلات ذكية قادرة على إتمام المهام واتخاذ القرارات على نحو مشابه للبشر. وتتمتع تقنيات الذكاء الاصطناعي بالقدرة على تعزيز التعلّم عبر الإنترنت، وبرامج التعليم التكيفية، وعمليات البحث بطرق تستجيب للطلاب بشكل أكثر بديهية وتفاعلية. وكذلك استخدام التعلّم التكيفي Adaptive Learning والهدف منه هو مساعدة الطالب على التقدم في مساره التعليمي وتعزيز التعلم النشط ومساعدة الطلبة المتعثرين وتقييم العوامل المؤثِّرة في نجاح الطالب. وفي التعلّم التكيفي تساعد التقنيات التي تراقب تقدم الطالب وتستخدم البيانات لإرسال التعليمات في أي وقت، حيث تعمل تقنيات التعلّم التكيفية «على التكيّف بشكل ديناميكي مع مستوى محتوى التعلّم. وكذلك نمط الواقع المختلط Mixed Reality «MR ، حيث تقدم تكنولوجيا العالم المختلط «MR» للطلبة فرصاً جديدة لتقمص دور الصنّاع المشاركين وذلك بصنع بيئات واقع مختلطة كجزء من المنهج الدراسي والتي عادة ما تكون بيئات تحاكي العالم الحقيقي وتجاربه. وتشمل التنشيط الصوتي والتجارب الافتراضية التعاونية والتي يصبح الطلاب فيها منغمسين في المناهج الدراسية. ويتطلب الدمج الفعَّال لهذه التقنيات في المناهج تخطيطًا دقيقًا وموارد عديدة؛ فبالإضافة إلى دمج التقنية في حد ذاتها، يجب على المؤسسات التدريب والتطوير لأعضاء هيئة التدريس.
** خامساً: آخر هذه الأنماط هو نمط علم الإنسان الآلي (الروبوت): يهتم علم الروبوت/ الإنسان الآلي بدراسة الروبوتات وتصميمها وتصنيعها وتطبيقاتها. ويخدم علم الروبوت مجال التعليم، حيث بدأت بعض المدارس استخدام الروبوتات في التدريس معتمدة على الذكاء لاصطناعي، حيث يوجد في الوقت الحالي بعض الروبوتات تقوم بتدريس اللغات، وكذلك بعض العلوم الأساسية وهي مطبقة في الصين وبعض الدول الإسكندنافية. أما بالنسبة للدول فمن المتوقع أن تكون الخيارات المتوقعة في (عالم ما بعد كورونا) وفق ما يلي:
** الخيار الأول: ربما تعود بعض الدول والمؤسسات والجامعات إلى نفس التعليم التقليدي بدون أي تعديل أو استفادة من التعليم عن بعد، والسبب في ذلك راجع إلى عدم وجود بنية تحتية تقنية وكذلك عدم قدرة تلك الدول على توفير الإنترنت للمجتمع، وربما تكون هذه الدول من الدول النامية والفقيرة أو غير القادرة اقتصادياً. لكنها ستبدأ العمل في خيارات التعليم عن بعد. وقد يكون خيار تقليل حجم الفصل الدراسي هو الحل في هذه المرحلة.
** الخيار الثاني: سوف تعود بعض الدول والمؤسسات التعليمية إلى الاستفادة من التعليم عن بعد والتعليم الإلكتروني على نحو جزئي، أي أنه يمكن أن تستفيد مثلاً بوضع 30 % أو 50 % من المنهج تعليم عن بعد أو جعل بعض مواد الإعداد العام مثلاً في الجامعات أو المواد التي لا تحتاج إلى تطبيق ميداني وعملي عن بعد، ونجاح هذا التوجه مرهون بوجود بنية تقنية جيدة لدى تلك الدول، ووجود محتوى متميز، ونظام تعلّم قوي؛ أضف إلى ذلك وضع آليات التقويم، ومعايير الجودة. وهذا الخيار سوف تختاره الدول والجهات التي لديها بنية تقنية جيدة، وقدرة على تصميم المحتوى الإبداعي المناسب، ووضع الضوابط والمعايير.
** الخيار الثالث: سوف تتخبط بعض الدول والمؤسسات، ومن ثم فلن تكون قادرة على تفعيل التعليم عن بعد والتعليم إلكتروني أو التعليم المدمج أو التعليم باستخدام الروبوت. وسوف تسير بدون ضوابط، وفي النهاية ستقع تلك المؤسسات التعليمية في مشكلة التقويم والجودة.
** الخيار الرابع: سيكون هناك نمو كبير للتعليم المدمج وخاصة في التعليم العالي، ومن المتوقع أن معظم الجامعات في الدول المتقدمة سوف تتخذ هذا النوع من التعليم، وسوف يكون الدمج على مستوى المؤسسة التعليمية، أو على مستوى البرامج بحيث تكون بعض البرامج كلها تقدم بالتعليم المدمج، أو سيكون الدمج على مستوى المواد التعليمية بحيث يتم الدمج في بعض المواد وخاصة التي لا يوجد فيها جانب عملي مباشر في الوقت الحالي حتى تنضج التجربة، وهذا أيضاً مرهون بوضع الضوابط والتقويم والامتحانات والجودة.
الخيار الخامس: يرى بعض المسؤولين في بعض الدول أن مرحلة تطبيق التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد التطبيق ينبغي أن تتم وفق مراحل متدرجة، حيث يتم التريث في التطبيق في التعليم العام وبخاصة المرحلة الابتدائية والمتوسطة، ويكون في فترة انتقالية في المرحلة الثانوية. أما في المرحلة الحالية فيقتصر التطبيق على التعليم العالي (الجامعي) وفق الضوابط المعلنة.
والخلاصة العامة، إن التعليم سوف يتغيّر أسوة بقطاع التجارة الإلكترونية وقطاع الأعمال والخدمات، لكن هذا التغيير مرهون بوجود رؤية واضحة، وخطة إستراتيجية، وإمكانات مادية وبشرية مدربة؛ لكي تحقق النمط الذي تراه كل دولة مناسباً لها وفق إمكاناتها، واحتياجاتها، ولو كان لي من كلمة ختامية لقلت ليتنا نستثمر بالمحتوى الإبداعي المشاع والتقنية، بدلاً من الاستثمار في المباني؛ لأن هذا هو التوجه المستقبلي القادم الذي تراهن عليه عليه التجارب العالمية الناجحة.
** **
د. عبدالله بن عبدالعزيز الموسى - مدير الجامعة السعودية الإلكترونية سابقًا