في هذا المقال أحاول أن أُبين أن التنمية بجوانبها, بالذات, الاقتصادي والاجتماعي وكذلك الفكري هي السلاح الأقوى, في الوقت الراهن, لمواجهة المشروع الإخواني والإيراني السياسي. لفهم ذلك أكثر, أجد أنه من الأفضل إعطاء لمحة مختصرة عن الوضع السياسي الذي يشهده الشرق الأوسط المعاصر.
تشهد منطقة الشرق الأوسط انقساماً حاداً واضحاً لكل مراقب, والملفت للنظر هو أن هذا الانقسام لم يكن على أساس طائفي أو عرقي أو حتى مناطقي, ولكن تنقسم المنطقة على أساس المصالح المشتركة بغض النظر عن الدين أو العرق. ومما يزيد الدهشة أن هذه المصالح المشتركة لا يحركها العامل الاقتصادي في المقام الأول, ولكن تتحرك هذه المصالح على قاعدة سياسية بحتة, هدفها الوصول إلى مقاليد السلطة. فهناك دعاة الحكم «الإمبراطوري» الذي يسعى إلى تجاوز الحدود الجغرافية السياسية الدولية الحالية وعدم الاعتراف بها, بحجة أنها تم تحديدها من المستعمر الغاشم بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية. وعلى رأس هذا الفريق المؤيد لهذا الاتجاه يأتي بما يسمى اليوم بالإسلام السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين ومؤيديهم والنظام الإيراني الطائفي.
وعلى الرغم من أنه يوجد اختلاف أساسي في شكل الحكم بين هاتين النسختين, النسخة الإخوانية والنسخة الإيرانية, فالأولى تدعو إلى إقامة نظام «خلافة», بينما الثانية تدعو إلى حكومة «المهدي المنتظر», ومع هذا الاختلاف الجذري في شكل الحكم إلا أنه يتفق في نقطة أساسية وهي المناداة بنظام حكم «إمبراطوري» لا يعترف بالأنظمة السياسية الحاكمة في الوقت الراهن، فهذان التياران المختلفان طائفياً المتفقان سياسياً في مسألة الحكم الإمبراطوري يعيشان «المصالحة المرحلية» وهي التعاون في مواجهة مخالفيهم السياسيين لمشروعهم السياسي ويرون أن مصالحهم مشتركة في الوقت الراهن في مواجهة التحديات المستجدة.
من المعروف أن الدين يعتبر من أهم العوامل المؤثرة في شعوب منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي, فالعاطفة الدينية ما زلت أكثر تأثيراً من الشعور القومي والانتماء العرقي في تحريك مشاعر الجماهير. وجرت العادة, مما يجعل الأمر أكثر خطورة, في الصراعات السياسية أن هناك أيديولوجيات تتبناها النظم التقليدية لتعبئة الجماهير، وهذا واضح في الخطاب الطائفي الذي يُعّظم من شأن المرجعية الدينية وأهميتها في صنع القرار السياسي.
يعول الخطاب الإسلام السياسي على إعادة الماضي المجيد للأمة الإسلامية, ويُعّظم من أسطورة الماضي, ولأن الماضي غائب عن الإدراك المباشر لكثير من الأفراد, فمن السهل نسج أساطير وبطولات, ربما أكثرها من صنع الخيال. ومن الملاحظ أن هذا الماضي المجيد قد حُصر في كثير من جوانبه بالإنجازات العسكرية دون سواها, ولعل هذه الطريقة المثالية للخطاب الإسلامي السياسي المعاصر في حشد الجماهير لتأييده ضد الوضع الراهن الذي يشهد تراجعاً في كثير من الأصعدة, بالذات, التنموية.
إن الوضع الراهن الذي تعيشه مجتمعات الشرق الأوسط يعاني من خلل كبير جعل كثيراً من الأفراد يهرب من واقعه ويلجأ إلى الماضي, ولعل أهم مكامن هذا الخلل يتمحور في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. لقد استغل دعاة الخطاب الإسلام السياسي هذا الخلل الذي يعيشه العالم في الشرق الأوسط لأسرهم في داخل أسوار الماضي الأسطوري الذي لم يعد, في كثير من جوانبه, يمت إلى الحاضر بصلة. وهذا سهّل المهمة على هؤلاء الدعاة في ترسيخ قداسة الماضي في أذهان الناس من ناحية, ومقت الحاضر ومن يقوده, وأن الأنظمة السياسية القائمة السبب في تراجع الأمة الإسلامية من ناحية أخرى.
من الواجب مواجهة هذا الفكر السياسي وأيديولوجيته الذي يتخذ من الدين ذريعة لجمع أكبر عدد ممكن من المؤيدين، وذلك في السعي إلى هدم الأنظمة القائمة في سبيل الوصول إلى السلطة. ولكن المواجهة بطرق سياسية وأيديولوجية تقليدية بحتة لم تعد كافية في الوقت المعاصر وربما تكون ضعيفة واهنة أمام هذا الفكر السياسي وخطابه الطائفي. يبدو أن من أفضل الطرق لمواجهة هذا الخطر هو تبني لغة العصر, وأعني هنا بالسياسيات التنموية التي ينبغي تبنيها والعمل بكل جهد في إنجاحها, ولعل أهم حقول هذه التنمية هي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية والتنمية الفكرية. ربما ينبغي, في هذا الاتجاه, أن نتبنى أيديولوجية التحديث والعصرنة -التي لا تخرج عن ثوابتنا الدينية وتراعي التغيرات التي تطرى على العادات والتقاليد- في مواجهة أيديولوجية الطائفية والتحزب الديني الذي يتبناه الفكر السياسي الطائفي المعاصر.
إن المجتمعات في الغالب تنجذب إلى أي مشروع تنموي من شأنه أن يحسّن مستواهم المعيشي ويدفع نحو الأمام والتقدم بمواهبهم واهتمامهم, ويعزز من حياة مرفهة كريمة. وفي نفس الوقت, انطلاقاً من مسلماتنا وثوابتنا الدينية فإن الاهتمام بالثقافة والتوعية الدينية ستكون على قدم المساواة مع أي تنمية اقتصادية واجتماعية, وهنا تأتي التنمية الفكرية كركن ثالث أساسي لأيديولوجية التحديث والعصرنة, وذلك في سبيل الدفع إلى فهم الدين جيداً وتنقيحه من المفاهيم المتشددة العالقة به منذ أزمنة. إن غياب مشروع تنموي حقيقي أحدث فراغاً ملموساً استغلته المشاريع الطائفية والمذهبية السياسية لتملأه, فلم تجد المجتمعات العربية والإسلامية غير هذا الحيز الطائفي الذي ملأ الفراغ بشعارات وخطابات تحريضية ضد الأنظمة السياسية القائمة أو خطابات متشددة تحارب تقريباً كل ما هو جديد ومعاصر.
إن محاربة التشدد ليس بإقصاء الآخر المخالف -كما يفعل التشدد نفسه- ولكن بإتاحة الفرصة للآخر والسماع له وفهم لماذا هو مختلف وليس لماذا الاختلاف, لأن التشدد يستمد قوته من ثقافة الرأي الواحد. إن الأمور الفقهية المختلف عليها أكثر بكثير من الأمور المتفق عليها بين المسلمين, وهذا ربما عزز في الماضي ثقافة فرض الرأي الواحد ومحاربة الآراء الأخرى، ولذا ساد التطرف بإقصاء المخالف، وعاشت المجتمعات فاقدة لروح التعايش الذي أمر به الإسلام في الأصل وأيدته سنة الرسول الكريم بعلاقاته مع الآخر. ولهذا السبب بالذات, حان الآن الوقت لتصحيح هذه الثقافة الإقصائية وإحلال محلها الثقافة التعايشية التي تعطي المجال لروح الاختلاف, فقد أصبح الاختلاف مصدر إبداع الشعوب وتوحدها وليس مصدر التفرقة كما كان سائداً في الماضي.
** **
د. فارس بن متعب المشرافي - رئيس قسم التاريخ - جامعة الملك سعود