العالم الآن أصبح مهدداً بسريان موجة من الظلم بعد انحسار جائحة فيروس كورونا. هذا الظلم قد ينتج عن نزعات كانت موجودة في السابق، مثل ميل الدول نحو الاحتكار ومحاولات الهيمنة الصينية والرأسمالية المفترسة، ولكنها مرشحة للانفجار الآن ما لم تتخذ الحكومات تدابير لاحتوائها. ورغم عدم اعتراضي على حقيقة أنه من الصعب تخيل حدوث غضب عام في نظام اقتصادي غير سوي، يحتشد فيه الناخبون أمام قادتهم، وتحظى فيه قرارات الحظر بدعم كبير، فإن مثل هذا التضامن تصعب المحافظة عليه في ظل أزمة تكرس الانقسام بين ذوي الحظوة في النظام الاقتصادي ومن هم خارجه.
فها هم الآن، الموظفون العاملون في المكاتب والقادرون على العمل من المنزل، يعملون في تناغم، مع وجود قلة تتعامل مع المكوث في البيت باعتباره شيئاً قريباً من العطلة، فرحين بالخبز المنزلي وتوفير الأموال التي كانوا سينفقونها في المتاجر والمطاعم والفنادق ووكالات السفر وغيرها من الأماكن التي كانت مصدر رزق في السابق لذوي الدخل المحدود، الذين لا يستطيعون العمل من المنزل، ويمثلون تسعة أعشار المنتمين للطبقة السفلى من أصحاب الدخول.
وما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضاً على المؤسسات وصناديق الأسهم الخاصة، القوية بما يكفيها لشراء الأصول المتعثرة بجزء يسير من قيمتها قبل الأزمة. لفت انتباهي الأسبوع الماضي تصريح لسيباستيان مالابي، من المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، يحذر فيه من أن المستثمرين في الأسهم الخاصة قد «يلعبون على الحبلين: «امتصاص الدعم الحكومي من جانب واستغلال فوضى السوق لجني الأرباح»، مختتماً بأن ذلك «لن يبدو رائعاً عندما نعيد النظر في الاقتصاد السياسي أيام الجائحة بعد عام من الآن».
وبمقدورك استكشاف بعض ما يخبئه المستقبل بإلقاء نظرة على مناورات شركات الأسهم الخاصة الأمريكية، التي تفكر في توزيع مدخراتها البالغة مئات المليارات من الدولارات في شكل قروض عالية الفائدة على الشركات المتعثرة. كذلك يمكنك التأمل في اللغط الذي دار خلال هذا الشهر حول صفقة بيع شركة «إماجنيشن تكنولوجيز» البريطانية، المتخصصة في تصنيع الرقائق، التي اشترتها شركة استثمار صينية مملوكة للدولة، لبلورة تصور عن شكل العالم المحتمل في المستقبل القريب. هذه الصفقة تأتي ضمن إستراتيجية الحزب الشيوعي الصيني، المسماة «2025 صنع في الصين»، التي تستهدف تحقيق التفوق على الغرب بالاستحواذ على الشركات وتأسيس دور ريادي عالمي في مجالات التصنيع الذكي والرقمنة والتقانات الناشئة. وهاهي جائحة فيروس كورونا توفر الفرصة التي طالما انتظرها الحزب بما أفرزته من أجواء عمل يسودها الجنوح نحو الاحتكار.
لقد ركز انهيار عام 2008م، مثل فترات الركود التي سبقته، الهيمنة الاقتصادية في يد الشركات الكبيرة، التي استخدمت مواردها وقدراتها على الحصول على التمويل لضمان بقائها. ولكن هذا الانهيار لم يؤد إلى بروز شركات متنافسة بعده، مثلما حدث بعد أزمات القرن الماضي، ما تسبب في انعدام المنافسة وندرة فرص العمل الجديدة التي تتيح للعاملين الراغبين في رفع أجورهم فرص المفاضلة بين الشركات. ففي عام 2016م، استحوذت أكبر 100 شركة بريطانية على 23 % من إجمالي الإيرادات في مختلف قطاعات الاقتصاد وفق دراسة لمؤسسة «رزوليوشن فاونديشن». وحيث إن الأزمة الاقتصادية التي نشهدها الآن تبدو أسوأ مما حدث في العام 2008م، بل أسوأ بمراحل من أي شيء يمكن أن يخطر على بال أي شخص على قيد الحياة الآن، فإن بروز الشركات العملاقة يبدو في حكم المؤكد. فالحكومات الكبيرة - هذه الأزمة ستجعل الحكومات أكبر من أي وقت مضى - سترحب بها، واضعة في الاعتبار سهولة التعامل مع الشركات الكبرى، عوضاً عن التعامل مع عشرات الآلاف من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
هل تريد أن تعرف كيف يمكن أن يتصاعد الغضب الشعبي؟ يحدث ذلك عندما ينقض النسر الرأسمالي على الأصول بأسعار تقل كثيراً عن قيمتها، عندما يستفيد الشيوعيون الصينيون، الذين ظلوا يراقبون أخبار فيروس كورونا بدلاً من تنبيه العالم عنها، من نتائج هذه الأزمة التي صنعوها بدلاً من المعاناة بسببها، عندما تدوس الشركات الكبيرة على ظهر كل من يقف في وجهها.
ويبدو من النظرة السطحية لأزمة فيروس كورونا الحالية أنها لا تشبه في تداعياتها ما حدث خلال أزمة العام 2007م - 2008م. ليس ذلك لأنها تهدد بجلب مستوى من الفقر لم يسبق له مثيل. حينذاك كان هناك الأشرار من البشر، المصرفيون و»المشرعون الأسرى»، الذين خرقوا النظام المالي، وأوروبيو الشمال الأوروبي، الذين تبادلوا التهاني، تاركين جنوب أوروبا عرضة للانهيار. الآن لا يوجد شيء سوى كائن معد غير مرئي يريد أن يتكاثر. ورغم ذلك فإن أوجه الشبه بين الأزمتين تبدو مذهلة. فخلال أزمة العام 2008م لم يكن جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، وأليستير دارلينج، وزير المالية البريطاني في ذلك الوقت، وغيرهما من قادة الغرب، حريصين على سجن المصرفيين أو إجبارهم على تسديد ما جنوه من مال، بل انصب اهتمامهم على وقف انهيار النظام المصرفي، تاركين التعويضات على الرف، إلى الأبد كما اتضح بعد ذلك. واضطر دافعو الضرائب إلى إنقاذ أغنى أغنياء العالم، لكي يعانوا بعد ذلك من سنوات من الأجور الراكدة وانقطاع الخدمات العامة. ألم يكن ذلك كافياً لتصاعد المد الشعوبي بعد ذلك؟
وكما حدث في أزمة 2008م، يكرر المسؤولون خلال في الأزمة الحالية التزامهم بدفع مبالغ إسعافية كبيرة، غير أننا الآن في مواجهة كارثة. نلحظ ذلك بوضوح في أحاديث المحللين، الذين يرددون بعصبية كيف أدى الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي إلى بروز النازية والشيوعية، وكيف تسببت أزمة عام 2008م في بروز الشعوبية، مبدين القلق إزاء ما يمكن أن يترتب عن الأزمة الحالية. ولكن هؤلاء يتناسون أنه لا يوجد رابط بالضرورة بين الفشل الاقتصادي والسياسي. فعوضاً عن تمكين الاستبداد، شهدت الأزمة الاقتصادية في السبعينيات، على سبيل المثال، نهاية الاستبداد اليميني في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان وبداية تراجع وسقوط الإمبراطورية السوفياتية. لا يعتمد مستقبلنا على عمل العلماء فحسب، بل على جهود الحكومات لوقف تحول الديمقراطية إلى نظام مخادع للشعوب.
** **
نيك كوهين - كاتب عمود في صحيفة الجارديان البريطانية