المقصود مظهره... فما بالكم بمن مظهره مصحوب مع (مخبره) نظيف -أيضاً-
وهنا أول ما يتبادر لك حديث ذاك الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -ثلاث مرات - بـ(يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، وكذا في الْيَوْمُ الثَّالِثُ.
فتَبِعَ - الرجل- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ..
فقضى ثلاث ليال لم يجد عنده من فضول نوافل..، لكن (الأنصاري) أجاب:..غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ.
أي ما أبلغه تلك المرتبة العزيز نيلها بما يظنّ الغرّ هي من السهولةً، لكن كما لاحظتم..ما ختم به (وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ..)!
والسبب أنها تحتاج دفعاً قوياً من داخلك يجمح نفسك أن تأخذ بحقها، فضلاً عن تتنازل عنه بطواعيتها، وهذه الأخيرة بالضبط موضع الصعوبة.
بهذه الإلماحة أقرّب عن تلكم/ المنيرة على اسمها .. والتي كان عنوانها (كلّه بأمر الله)، فهي بمنزلة {أُمّ} لنا..
إذ لا أذكر أنك تلفاها إلا وابتسامتها تنشق عن ثغرٍ يعلوه عينان تختلط بهما دموع الابتسامة الصافية التي تنبعث من نفس راضية، لأنها تبتسم من قلب نقي طاهر الأردان.
وعمري لا تخيلها بموقف غضبت به، أو وجد أحد به عليها - رحمها ربها- إزاءه..
لأن ما تحت يديها لا تحسبه - هي- أنهُ لها، بل ما يذكر أنها استأثرت بشيء لذاتها..
فكل ما تملكه مباح ليس لمن تحبّ فقط، بل للكل ..و هل هناك - من ذلك الكل-ألِف أم «أحمد» ولم يحبّها فسبحان ربي كيف أودع بها بصائر تدلّها على ما توفّق به بين الآخرين، فلا يمكن تغضب فصيل على حساب آخر، فضلاً أن تتخذ موقفاً مع أحد ضد آخر.
كما ومن لطائفها وهي خافضة الجناح أنها أن.. قامت حرارتها فهي تتكئ على غيرها أن يردّ لها ذاك جوابا، فلا تنبذ إليه نفسها، ثم أزيدكم عجباً عن أي حق ترجوه!
وهي التي لم تستبق شيئاً لذاتها أو تدّخر.. فظنها بالله الكبير سبب ترديدها كلمة حُفظت عنها: (كلّه بأمر الله)
ثم إن هذه الوالدة.. زوجة العم»عبدالباري بن أحمد باحميد»، وأم أبنائه كانت بالفعل أهل أن يقال بها / أُم لم تلد..
فلطفها معنا أزعم أنه فاق ما وجده منها أبناء بطنها، لأنها تتخلَّق بمنقبة قليل ما تلفاه، بعصرنا خاصة.
تعطي البعيد أكثر من القريب..
وذاك نوع أبلغت عنه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ}، فهي تؤثرك على أبنائها
وذاك أنها تتحمَّل معتبتهم، لكنها لا ترضى لنفسها معتبتك.
ليس بكثير أن أثري عن بعض جمائلها.. كدرس في النبل.. مما سُطِّر (..أن رجلاً محسناً ناول صاحبه لقمة مُرّة..فأكلها وشكره! فقال: كيف تشكرني وهي مُرة؟! أجاب: لطالما أنت أطعمتني أمس حلواً..)
ذهبت (اليوم) كما يذهب الطيبون.. بلا ضجيج، وإنما بقلب كما هو مسالم طول حياته.. فهو حين الأجل مسلّم إلى الرحيم الرحمن (الذي لا تضيع ودائعه)، ولا يضيع عنده شيء، نسأله أن يكتنزها عنده في منازل العليين من أهل جناته.. وأن تلقى ما وُعد به الذين صبروا، فقد تجرَّعت كثيراً من داء الألم، قبل أن تسلم الروح لبارئها.