لا أدعي فيما سأكتب أن للأكاديمي حياة مختلفة عمّا سواها، ولكن طبيعة العمل الأكاديمية تلقي بظلالها كثيرًا على طريقة تفكيره وما يمر به يومه بدءًا من المحاضرات ومرورًا بالاجتماعات وجلسات الإشراف وانتهاء بالهموم التي قد تشغل باله من أفكار بحثية أو تدريبية أو غير ذلك.
مصطلح الهامش شائع مستقر في الأذهان عند المختصين وغيرهم، وهو يعني تلك المساحة التي تتقاسم اهتمامنا مع المتن، إلا أن المتن أكثر حظًا في العادة، ووجهة المقال تيمم نحو هوامش متنوعة، تتقاطع في بعض الجزئيات مع هذا المفهوم العام على نحو ما.
تقتضي الأعراف الأكاديمية مجموعة من الأسس المتعارف عليها في كتابة الهوامش، ولم تشفع للهامش تسميته في التغاضي عمّا يكتب تحت ذلك السطر الموجود عادة آخر الصفحة، والفاصل بين المتن الأكبر حجمًا والهامش الأصغر في حجمه.
من ذلك أن بعض ما يكتب في الهامش حقه أن ينقل إلى المتن لأنه يحمل معلومة في صلب الموضوع وليست استطرادية، ومن ذلك أيضًا أن بعض ما يكتب في الهامش لا يتصل بالموضوع من أي وجه فلا حاجة له حينئذ، كما أن الإفادة نصًا تختلف إحالتُها عن الإفادة مضمونًا، التي يضاف في بدايتها حسب بعض المناهج «انظر أو ينظر».
وتتضح أهمية هذه الهوامش للقارئ في استجلاء مصادر الأفكار والمعلومات التي يستقيها الكاتب من مصادر مختلفة، وهنا يظهر جانب مهم جدًا للمشرف على الرسائل العلمية أو مناقشها، من حيث نوع المصادر والمراجع ودرجتها، ومدى اطلاع الكاتب على الدراسات الأخرى، إضافة إلى تبين درجة الأمانة العلمية في النقل والإحالة التي قد ترد الرسالة بسبب انعدامها. وهناك هوامش (فكرية) أيضًا، حيث يشكل الهامش في أفكار البحث العلمي همًا كبيرًا اتضح من خلال العناوين التي ألفت فيها كتب ورسائل كثيرة، فالهامش أو المهمش بوصفه نادرًا أو مهملاً على نحو ما، لم تغب عنه أفكار الباحثين، من نماذج ذلك على سبيل المثال دراسة آثار: الشعراء الصعاليك في الجاهلية، والسود، والشعراء المغمورين، والمبصرين وغيرهم. وفي العصر الحديث نهضت دراسات كثيرة حول الآخر، وكثير من هذا الآخر هامش على وجه ما، وهناك اعتبارات كثيرة في تصنيفات الباحثين للآخر، من جنس ولون وفكر وبعد جغرافي.
لا أبالغ إن قلت إن مكمن التميز في الأفكار البحثية هو تمتين الهوامش، بمعنى أن نبحث عن تلك المساحات الهامشية التي لم يلتفت إليها أحد، ونركز الضوء عليها ونخرجها من كونها هامشًا إلى متن يحظى بالاهتمام. والاتجاه نحو دراسة الهوامش والمهمَشين يضمن على نحو ما جدة الموضوع، لكون الهامش غير ظاهر، ولا تتبادر إليه الأذهان عادة، وهذا يذكرني بالقول الشهير: «البعيد عن العين بعيد عن القلب».
وإذا توسعت أكثر في تأمل الهوامش، أجد المتن في الحياة الأكاديمية يعج ببعض البروتوكولات التي لا تعد أكثر أهمية من الهوامش!، عن تجربة وجدت الحديث مع المدربين على هامش اللقاء التدريبي أكثر فائدة ونضجًا وتلقائية، كما أن النقاشات على هوامش المؤتمرات قد تؤسس لمعرفة لم تقدمها جلسات تلك المؤتمرات، والحديث نفسه ينطبق على الملتقيات والندوات. وليس معنى الهامش هنا أن يكون الهم نحو الأنا بمعزل عن الآخرين، فقد يكون الحديث على هامش مؤتمر ما يضم عددًا لابأس به من المهتمين، ولكن بطريقة بعيدة عن الرسمية تضمن تبادل الأفكار بطريقة ودية قريبة من النفس، وتقبل الخروج المعقول عن المحاور المحددة رسميًا في الجلسات.
إن أنجح اللقاءات التدريبية هي التي يستطيع من خلالها المدرب تمرير مهارات مقصودة من خلال الهامش، والهامش هنا يعني أحاديث عن تجارب حقيقية غير موجودة في مادة التدريب ولكنها تعني الكثير في مسيرة التدريب تلك.
أذكر في بعض محاضرات الجامعة أحاديث لبعض أساتذتنا في أثناء انتظارهم لاكتمال عدد الطلاب أول المحاضرة، ما زالت محفورة بالذاكرة مع أنها في موضوعات لاتتصل بمفردات المقرر وإن كانت في صميم التجربة العلمية.
ختامًا، ما هو هامش اليوم قد يصبح متنًا غدًا، حسب المتغيرات والذات والبيئات، والعكس صحيح أيضًا، والحكمة تقتضي أن نتخير متوننا بعناية، وهوامشنا بدقة!.
** **
د . ماهر بن مهل الرحيلي - أستاذ الدراسات العليا في الأدب والنقد - كلية اللغة العربية - الجامعة الإسلامية