تبدو صورة المثقف لدى المجتمع إنساناً كثيف القراءة، واسع الاطلاع، حكيماً، ورصيناً في آرائه، ويستعمل مصطلحات قد لا تكون معلومة لدى المستمع، وفي حقيقة الأمر أن هذا التصور قد أحدث فجوة بين المثقف والمجتمع. لقد صار معلوماً أن المثقف كائن منعزل ومتعال في الآن ذاته، بعد انعزاله -واعتزاله ربما- الطويل في زمننا هذا، وقد أسهم في إحداث هذا الانعزال المثقف نفسه فضلاً عن تصور المجتمع حوله، وفي نهاية المطاف يجد المتابع أن المثقف الفاعل قليل الوجود، ونادر الحدوث؛ لأنه -من وجهة نظري- فاعلية وتأثير في المجتمع بشكل إيجابي، والانعزال ينفي هذا الأمر. ولعل انتشار منصات التواصل الاجتماعي قد أظهر فراغاً محتوى معظم المثقفين، وضاعف من عزلتهم إن بدفعهم إلى الظل تارة، أو بعدم قدرتهم على الاندماج مع الواقع ووضع حلول لما يعاني منه المجتمع بشكل ناجع من جهة أخرى، وكثير ما نجد أن فكر المثقف وخطابه لا يتماشيان مع المجتمع، بل هما في اغتراب مضاعف.
إن عزلة المثقف تعني في حالة من حالاتها عزلاً قسرياً من قبلهم لذواتهم الفاعلة، وإقصاء للمجتمع أيضاً عنهم، وهذا العزل بلا شك نوع من التخاذل تجاه المجتمع، بل خذلان للمجتمع، وهنا تجدر الإشارة إلى محاولة المفكر الإيطالي جرامشي في تحديد وظيفة المثقف أو المفكر إذ يؤكد أن وظيفته لا يقوم بها كل الناس، فدور المثقف هو التفاعل مع المجتمع وجعل فكره متماشياً ومنسجماً مع حاجات المجتمع ومتطلباته.
لقد عزل المثقف نفسه في وقت صار العالم يعيش في تطبيق إلكتروني أو برنامج تواصل في متناول اليد، وقد كان بإمكانه الاستفادة من هذه التقنيات بتوجيه خطابه إلى شريحة كبيرة من المجتمع، خاصة وأن تداول مقاطع هذه البرامج يمتاز بسرعة الانتشار بين شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، فهي تغري المتلقي بسهولة الوصول إلى المعلومة وقصرها.
وبرغم هذا الانعزال نجد قلة من المثقفين يستوعبون هذا الأمر، ويعون جيداً وظيفتهم، ويؤدون دورهم على أكمل وجه، ومن هؤلاء على سبيل المثال يثري الدكتور إبراهيم التركي قنوات تواصله بشكل يومي بكثير من العلم والمعرفة، ويطرح في حساباته تساؤلات معرفية، ويناقش في سلسلة من الحلقات عدداً من الموضوعات المتنوعة منها المقاهي الثقافية، أو تأثير المكان السلبي أو الإيجابي أو يناقش كتاباً أو يشرح قضية فلسفية، وكذلك عدد من المثقفين. لقد بات من الواضح أن مهمة المثقف في الغالب غائبة عن وعي المثقف ذاته، وهو ما يثير جملة من التساؤلات عن المثقف ودوره وقيمته وأهميته وجدوى أن يكون مثقفاً من الأصل، وبعبارة أخرى، لقد ذهب كثير من الذين كنا نعتبرهم مثقفين ونعول عليهم، وبقي قلة منهم ينشرون الضوء ويعالجون القضايا.
** **
- د.عائشة صالح الفيحان