المجتمع السعودي هذه الفترة تحولاً لا يخفى على أحد، فكل يوم يتفتّق عن جذعه فرع يورق ويمتد دون وجل، وكأنه خاضع لقانون طبيعته فارضاً إياها.
أحد أهم هذه التحولات هو حضور الفن على ساحة المجتمع وكأنه الابن الذي أتى بعد غياب طويل عائداً باحثاً عن جذور سحنته.
حين أمعن النظر في المشهد الفني التشكيلي - وأعني الفن كفضاء ببنيته ووظيفته وما يحتويه من أدوار ومكانات وتفاعلات - أرى موقفاً غريباً لا هو أقرب للقبول ولا هو أقرب للرفض؛ يبدو لي وكأن السعوديين في موقف محرج مع الفن!
أتأمل أحيانًا كيف يستهلك السعوديون الثقافة بشكل عام والفنون التشكيلية بشكل خاص بنوع من المجاملة لها ولمنتجيها، وكيف يتلقون الأعمال الفنية.
يلعب التاريخ الاجتماعي دورًا بارزًا في تشكيل الذائقة الفنية والتحكم في عملية تلقي الفن، فالإنسان لا يولد متذوِّقاً بل يكتسب المعايير الجمالية من مصادر مختلفة شكلت وعيه وفلسفته عن الفن، لذلك تتفاوت مسألة تلقي العمل الفني من شخص لآخر بحسب وعيه وإدراكه.
ورغم أن فعل التشكيل بذاته ارتبط منذ القدم بالإنسان، ورغم صعوبة تحديد بداية تاريخ الفن التشكيلي إلا أنه يمكن القول إنَّ حداثة البناء الداخلي للفن التشكيلي السعودي أدى إلى افتقار التاريخ الاجتماعي السعودي لرأس المال الثقافي المتصل بفضاء الفن والذي يمكّن المتلقين من التعاطي مع الفنون وفهم وظيفتها وغايتها.
كما أنَّ افتقار التاريخ الاجتماعي السعودي لوجود الفنان التشكيلي خلق ضبابية في التصورات الذهنية عن الفن والفنانين وشكّل تحدياً ما زال قائماً في عملية تلقي الفن، فنجد التصورات واضحة مثلاً عن الكتّاب والمخرجين وأصحاب الحِرف والمثقفين. لكن الفنان التشكيلي غالباً ما يلجأ المتلقي لاستعارة صورة ذهنية مستوردة من ثقافة أخرى لتخيّله.
مما لا شك فيه أن وظيفة الفن تعطي لصاحبها (الفنان) دورًا ومكانة تكسبه طابعاً وظيفياً في محيطه ويتبع هذه المكانة قيمة بين الآخرين.
وهذا ما جعل فضاء الفن خياراً مفتوحاً يمكن ولُوجهِ دون قوانين واضحة تحكمه، أو دون وجود حارس لبوابة الفن وبالتالي ظهور بعض ممن أرتدوا جُبه الفنان وسطوا على ريشته ولأسميهم «ممثلي الفن - وهم من أعطوا أنفسهم صلاحية تمثيل الفن ويختلفون عن الفنانين الملتزمين» هؤلاء كان لهم دور في إفراغ الفن من مضمونه العميق ليقتصر الفعل الإبداعي على مجرد حركة ريشة ولون وعنصر، مما أنتج أعمالاً تفتقر لروح الفلسفة وعمق التجسيد، وجعل من كل فنان حقيقي ملتزم أشبه بحارسٍ لمعبده/ لوحته.
إنَّ قلة وربما ندرة الملتزمين الحقيقيين بالفن التشكيلي سواء كانوا فنانين أم نقّاد أم متذوّقين؛ انعكس على عملية تلقي السعوديين للفن التشكيلي وأثبت فشل الفنان نفسه (منتج العمل) - باعتباره الملتزم الأهم في العملية الإبداعية - على مساعدة المتلقي على التلقي.
لأن عدم تمييز المتلقي بين ممثلي الفن التشكيلي والفنانين الحقيقيين هي أزمة تحول عائقاً ليس دون فهم الفن فحسب بل حتى في تشكيل ذائقة رفيعة وخلق متلق واع.
واليوم؛ وفي ظل هذا التحول الذي زج بالفن لحياتنا اليومية وأخذ مساراً مؤسسياً، أعتقد أننا بحاجة لرسم محددات تشكيل الذائقة الفنية عند السعوديين، وأنْ نعي أنَّ استجلاب فنون راقية من مختلف أنحاء العالم لا تكفل لوحدها رفع مستوى ذائقة السعوديين الفنية
بافتراض أنَّ التلقي هو عملية إنعاش الخيال لإيقاظ حالة شعورية معينة بغرض فهم رمز تصويري، أو لنقل بمفردة أكثر بساطة هي الـ»تجاوب» الذي يُبديه المُتلقي مع العمل التشكيلي، وهذا يحتاج لوحده يحتاج عمليات من الغرس والتنشئة.
** **
- لمى محمد البدنه