الجزيرة الثقافية - محمد هليل الرويلي:
هل تخيلت يومًا أن سورة الغضب اضطرمت وأشعلت داخلك حرقة ذائقتك! كما لو كانت أوراقًا نفيسة مزمومة على هيئة غنيمة نقدت على غلافها عددًا من الدنانير فداءً في سبيل الحصول على -ما ظننته- ديوان شاعر عربي.
وأنت متجه إلى المنزل مع سائق التاكسي الذي يشتم زحام الدوار،لا تجد أمامك سوى أن تشتم الديوان،وما من شفيع سوى فتح النافذة وإلقاء الشاعر في الشارع!
وهل تخيلت يومًا أن تكون في أحد غرف المستشفى تزور صديقًا أعياه المرض يتلقى العلاج فيسرقك أحدهم،وتعفو عنه،لأن ثقافته بخير؟
ذلك ما حدث وأكثر لمؤلف «غيض الكلام،فراغ ملئ،حالتان من العشق،قلب قزح» محمد خضير،الشاعر والفنان الأردني،ضيف زاوية (ذاكرة الكتب)،في أحد لقاءاتنا وسط عمان في «ركوة عرب» وعلى رائحة فنجان من القهوة وأغلفة الكتب قال: تلتصق بذاكرتنا الأشياء البكر التي نمارسها لأول مرة ومنها أول كتاب قرأته «الأيام» للأديب طه حسين، الذي تناول فيه سيرته الذاتية. وديوان «ألحان وأشجان» للشاعر الأردني عمر عبدالفتاح أبو زيد أول ما ابتعت من الكتب،فيما أول ما استعرت من الكتب فهو من الشعر المترجم عن الشاعر القازاقي «أباي كونانبايف»، استعرته من مكتبة أمانة عمان. أما أوّل ما قمت بتأليفه فهي قصة «أوراقي خلف النهر» التي فازت بجائزة أفضل قصة قصيرة عن مسابقة وزارة التربية والتعليم في العام 1984، ثم مجموعة من النصوص الشعرية التي نشرتها في العام 2006م،وما دفعني إلى نشرها،قصة ظريفة حدثت معي: فقد ابتعتُ ديوانا لأحد الشعراء العرب، وبينما أنا مستقل سيارة الأجرة أخذت أقلب صفحات الديوان، فما وقعت عيني على شيء منه إلا ساءني، فرميت الديوان من شباك السيارة، وقلت: «على هذا الشاعر أن يقرأني كي يتعلم الشعر» وعدت من فوري إلى البيت وبدأت أجمع ما كتبت، ونشرتها في مجموعة أسميتها «حالتان من العشق» صدرت عن دار المأمون للنشر والتوزيع في عمّان، كان لها أصداء جيدة عند النقاد.
وأضاف: أملك مكتبة منزلية جاوزت الخمسة آلاف كتاب، ويحدث أن يستعير بعض الأصدقاء عددا من الكتب، لكن الطريف في الأمر أن لا أحد يعيد ما يستعيره، إذ كان آخر ما تم استعارته، ديوان للشاعر المصري أمل دنقل، وكتاب «محمّد من الشك إلى اليقين» للدكتور محمد فاضل السامرائي. وأحتفظ في مكتبتي ببعض الكتب التي تكرّرت على الرف، منها رواية «أحدب نوتردام»، وكتاب «النحو الوافي». كما قمت بتجليد بعض الكتب البالية كرواية «زقاق المدق» للروائي نجيب محفوظ، وكليلة ودمنة التي ترجمها عبدالله بن المقفع عن بيدبا. وأستغرب فقدان بعض العناوين التي تم منعها على الرغم من توفرها على الشابكة العنكبوتية.
وتابع: من المواقف الطريفة التي حصلت عندما أهديت لأحد الأصدقاء ديواني الشعري «غيض الكلام» يومها كان صديقي نزيل أحد المستشفيات لغايات العلاج، وقد تم نقله من غرفة إلى غرفة، ليجد أن الديوان قد اختفى من بين مقتنياته، فاتصل بي غاضبا «لقد سرقوا الديوان!» فضحكت وأخبرته بأنه ما دام هناك من يسرق الكتب فالثقافة بخير.
كتابه جعلني اكتشف جسدي
وكشف الشاعر محمد خضير أن من أهم الكتب التي بثت روحًا جديدة سرت في جسده: كتاب أنثروبولوجيا الجسد والحداثة لـ»دافيد لو بروتون» ما جعله يمنحني هذا الشعور كونه يحفر عميقا في قيمة أجسادنا التي نعتقد أنها مجرد ماكينات عابرة، لقد ساعدني هذا الكتاب على اكتشاف جسدي وكيفية حمايته من السقوط في براثن الآخر، كما يتحدث الكتاب عن علاقة الجسد بالأمراض والمحن والشيخوخة والبطالة والوحدة، وكيف تطور التعامل مع الجسد منذ العبودية وحتى إعارته لخدمة الإعلانات.
ترك خيارًا المؤلف العبقري
وحول الرغبة التي تعتري القارئ بين الاستسلام للكاتب أو التدخل في أحد سطوره أوضح «خضير»: قد يكون من العبقرية أن يترك لك المؤلف خياراً غير خياره المفروض داخل الكتاب، لكن الرغبة في الإصلاح تكمن عند قراءة محتوى نضجت فيه الفكرة وضعف فيه البناء. وحدث أن قرأت غير كتاب، رجوت لو أنني أملك حق تصويبه، لكن الاستسلام للمضمون هو ما تبقى من كفة الميزان التي طاشت بالمبدعين، ورجحت بالمدَّعين، ولو قدِّر لنا إعادة صياغة بعض الكتب، لصار المبدعون سواسية، وتاهت بينهم بوصلة الأفضل.
وفي مجمل إجابته عن لحظة التشظي التي تصافح القارئ منذ الوهلة الأولى وتسيطر عليه قال: يختلف الأمر بين قارئ وآخر، وربما تقودني شعريتي إلى الخضوع والانصياع أمام النص المحكم بالرمزية والشعرية، وإذا أصبت كتاباً لامس قضيتي؛ فلا بد أن أنهيه بلهفة وشغف. ويبدأ التشظي منذ العتبة الأولى (وأقصد العنوان) الذي غالباً ما يمنحني مفتاح الباب لألج عوالم النص، وإذا استطاع الكاتب افتعال الفضول عبر إهداء وازن مثير، فلا بد من الغوص عميقاً فيما تبقى. أعتقد أن التشظي يسيطر عليَّ لحظة الوقوع في شَرَك الفضول الذي يصنعه الكاتب، لتبقى ملاحقاً لأحداث النص، ويختلف هذا مع الشعر الذي تبرز محاسنه منذ الشطرة الأولى للقصيدة، فالأجناس الأدبية تختلف في ميزان المتابعة والملل.
أرى جمال أحدب نوتردام مشتبكاً مع القبح
وبيّن «خضير» أن الجزئيات والتفاصيل الدقيقة تأسره من بين كل ما أحدث الكتاب من القضايا والزمكانية وصولًا إلى النهايات،وأضاف: ربما جاء هذا الأسر من خلفيتي التشكيلية، فالفنان التشكيلي بطبيعته قادر على متابعة التفاصيل بحيث يقنع الواقف أمام لوحته، ومن هنا أجدني أنغمس بجزيئات الأشياء بعيداً عن زمكانية الأحداث، فلن يضيرني أن أرى أحدب نوتردام وهو يتسلق ساعة الكنيسة في زمن ومكان آخرين، المهم أن أرى الجمال مشتبكا مع القبح في صورة شلحت زمنها ومكانها، وأبقت على إنسانيّتيْ القلب والعقل.
أوصيكم بجاستن باشلار
في نهاية زاوية (ذاكرة الكتب)،أوصى الشاعر محمد خضير قراء (الجزيرة الثقافية) بقراءة كتاب «جماليات المكان» لـ»جاستن باشلار»، مفندًا دعوته: فنحن نركن للمكان الذي يحمينا، نبذل كل ما يسعنا لحمايته.. إنه البيت الذي كان وعاء للحكايا والحياة «غير الموضوعية»؛ وهو البيت الذي سمّاه «بيت الأشياء» بمقتنياته من أدراج، وخزائن، وفراش. وهذا هو الجانب الأهم الذي يركز عليه باشلار في كتابه، وأعني «بيت الطفولة» الذي يجعلنا نثق بالعالم من حولنا ثقة محمية ومنيعة. ولسوف يصبح هذا المكان كثيف الحضور في المخيلة والشعر، ولسوف تظل له قوة جاذبة لا نستطيع الفكاك من أسرها. وبرغم أنّ حياتنا ستنفصل عنه، غير أننا لن نتخلى عنه، بل سنظل نعيد إنتاجه بوصفه مولداً للحكايات والناس والأمان.