لا مسلمات في النقد، كما أنه لا ثوابت في الإبداع، وإن كان التقنين بدا هاجس هذه الأزمنة الغارقة في ماديتها، فعلى الإنسان أن ينجو من مساحة التقنين تلك، وأن يدع للأدب أن يكون ما شاء، ويقرأ هذا الأدب غير مغلول لنظرية كان الضبط هاجسها الأول!
تعيدنا مجموعة (حامل المظلة) للأكاديمي والقاص العراقي (لؤي حمزة) إلى الجدل الدائر حول علاقة الأدب بالحياة، الممكنات والمحرمات في تلك العلاقة، وهل بإمكان الفرد أن لا يكون فرداً من الجماعة؟! أو أن يتسامى عن كل تلك الظروف السياقية التي جاء ابناً لها؟ في أدب عليه أن يكون وفياً لتخييل المنزوع من سياقاته، والذي يفترض بالضرورة مناهجاً تأخذه مبتوراً عن كل هذا؟
لا يمكن للإنسان الإفصاح عن جوهر كما يقول لوكاتش «إلا عندما يصبح فاعلاً مهمًا كانت التصورات الخاطئة التي يقيمها مع هذا الموضوع في أعماق وعيه. يقول ماركس في هذا الصدد «إنهم لا يعلمونه ولكنهم يعلمونه». إن الخيال الشاعري لدى الروائي يتلخص في ابتكار حكاية وموقف لإبرار هذا الجوهر لدى الإنسان. وفي العناصر النموذجية لذاتيته الاجتماعية، وهذا لا يتم إلا داخل العمل. ويستطيع كبار القصاصين خلق صورة عن مجتمعاتهم بفضل هذه الموهبة في الابتكار التي تفترض فهماً عميقاً لمشكلات المجتمع».
يرى (جورج لوكاتش) في كتابه «نظرية الرواية « أن الرواية بشكل خاص ليست منحدرة من ممارسة تجريبية بقدر ما هي نتيجة لفلسفة تاريخية نشأت في ظلها الرواية، مقارناً بين الملحمة التي أفرزتها الحضارة الإغريقية وبين الرواية كشكل تعبيري ينتمي لهذا العصر المتسم بالتمزق والاستلاب، وبذلك فالنص عنده له القدرة على التقاط اليومي والمعاش والتعبير عنه، وإن كان في حديثه عن الرواية، يتحدث عن وجود بطل إشكالي، يتعارض في وعيه وقيمه مع المحيطين به، فالسؤال الذي أحمله معي لمقاربة مجموعة (حامل المظلة):
هل أفرزت الحروب بطلاً إشكالياً لا تكمن إشكاليته في تعارض وعيه مع من حوله وحسب، بل في اغترابه عن أرضه وفقده الانتماء لمكان أمن؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، سأوضح على عجالة، الاختلاف الأهم بين البطلين؛ الاختلاف الذي سيشكل دعامة تصورية لهذه المقاربة.
بطل (لوكاتش) الإشكالي يفتقد تقدير الآخرين وتحقيق الذات في وسط غير مؤمن به وبقيمته، وهي في سلم هرم (ماسلو) للاحتياجات، تشكل احتياجات تالية للاحتياجات الأساسية: (الفسيولوجية واحتياجات الأمان) في حين أن بطل النص العربي وليد الحروب، يعاني من إشكالية الانفصال عن المكان /المرجع، في افتقاد تام لشعور الانتماء والذي يكفل للفرد مكانًا يكفل له أبسط احتياجاته الأولية: (الأمان) والتالي في أهميته للحاجات الفسيولوجية، إن تغاضينا عن انعدام جزء كبير من الاحتياجات الفسيولوجية في الحروب، ليصبح بالإمكان القول: إن البطل الإشكالي عند (لوكاتش) في الرواية الغربية، يكاد يصبح في النص العربي وفي سياقه التاريخي معدوماً أكثر منه إشكالياً، فكيف جسدت المجموعة هذا البطل ما بعد الإشكالي؟
الشخصية ما بعد الإشكالية:
في ثلاث قصص هي متن هذه الورقة وهي على التوالي (حامل المظلة، النزيل، حكاية فاطمة) يتضح البعد الإشكالي للشخصية، من خلال المهام التي تؤديها الشخصية في القصص، ففي قصة حامل المظلة، يعمل الراوي، حامل مظلة أمام بوابة فندق كبير، ويقتصر عمله في استقبال النزلاء من باب السيارة حتى بوابة الفندق، وهي وظيفة فرضتها ظروف خارجية طبيعية قاسية تمثلت في فصل مشمس ملتهب وشتاء أمطاره لا تكف، وفي ظل تلك الأمور القهرية الخارجة، عن إرادته يقضي عمره راكضاً بين بابين، كما يشبه نفسه بعبد يركض خلف سيده في صحراء لاهبة: «وما أن أبلغتني إدارة الفندق بقبولي في الوظيفة، من بين وظائف عديدة معلنة، حتى أحسستني نسخة محدثة من عبد الصحراء».
تلك الشخصية الساردة، لا تلتقي بأحد وهي تقضي وقتها إما راكضة أو منقطعة داخل كشك عند البوابة «تتغير وتيرة العمل بحسب مزاج الطبيعة وتقلب أجوائها، تهبط أحياناًً فتنقطع السيارات وأنسى نفسي داخل كشك، أفكر بأشياء حدثت من قبل، وأشياء لم تحدث».
وعندما يحدث أن يتحدث مع أحدهم، يكون هذا الآخر مسلحًا من رجال مسلحين يجرّون خلفهما رجلين مقيدين بتهمة حمل بندقية صيد، وهو حوار قصير وخاطف، ما لبث أن عاد بعدها الراوي إلى ركضه اللانهائي في حيز ضيق وعند بوابة فندق، هذه الشخصية الساردة المراقبة والمتأملة، هي ذاتها التي نجدها في قصة النزيل، والتي تلعب هنا دور نزيل لا نعرف عنه أكثر من أنه يمارس عادة تأمل وجوه نزلاء مطعم الفندق، وقد طغى على وجوههم الارتباك والوحدة وحديث النفس:
«وقت طويل مرَّ منذ أن بدأت بمراقبتهم حتى حفظت طبائع كلٍّ منهم، طريقة أكله وانفتاح شفتيه أو ارتباك يديه، صمته وشروده أو حديثه المتقطع مع نفسه».
وفي كلتا القصتين يختص البطل بتأملاته الإنسان الذي ظهر مرتبكاً ومخذولاً ووحيداً، ففي حين يتنبه حامل المظلة للرجلين المقيدين، ينتبه هذا النزيل للوحدة في وجوه النزلاء، وفي موضع آخر، يستمع للصراخ الذي يسمعه كل ليل في الفندق ولا يفلح في مغادرته أو اتخاذ موقف حيال الأمر:
«الغريب هو ما أشعره من تردد في تنفيذ ما أقطعه على نفسي في ليالٍ متباعدة وأنا أسمع صرخات استغاثة تتصاعد في هدوء الفندق حادة وموجعة».
ليصبح الإنسان موضوعًا رئيسًا في بنية النص التي انطلقت من رؤية الإنسان حيال الإنسان، وهي رؤية تمتد لتخلق تماسكًا من تفكك تلك العلاقة الفعلية بين الفرد والآخر، ولا تبتعد قصة حكاية فاطمة عن هذا الحيز الدلالي، ففاطمة تحتل عتبة العنوان وتم فصلات القصة التي تدور حيال طفلة تعاني من خروج دود رمادي من عينيها، والتي تنبأ جندي الملجأ القديم بها، وإن كانت القصص الثلاث تنطلق من السارد /الإنسان إلى الإنسان/ الموضوع، في نصوص أحادية السرد، وبأبطال لا يتحدثون ولا يتفاعلون فيما بينهم، في غياب واضح للبنية الحوارية، وإن كانت تلك الملامح جزءًا من إشكالية الشخصية المتعارضة بوعيها مع الوعي الجمعي، فكيف إذا انتقلت تلك الشخصية من الإشكالية إلى ما بعد الإشكالية؟ أو بصورة أدق كيف تحول البطل الإشكالي في صورته الغربية إلى بطل معدوم في صورته العربية، في نصوص المبدع داخل الحروب؟
انفصام العلاقة بين الفرد والمكان المرجع:
تتجلى أهمية المكان كما تقول سيزا قاسم في أن «معايشتنا له عملية تجاوز قدرتنا الواعية لتتوغل في لا شعورنا... فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية، جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته، ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى (الأنا) فيها صورتها».
فما هي صورة الأنا التي عكسها المكان في القصص الثلاث؟ وما دورها في أحداث نقلة على صعيد الشخصية الإشكالية؟
من اللافت أن القصص حفلت بغياب تام للمكان/ المرجع، والذي أعني به هنا (البيت وملاحقه، والحي، والمدينة) لتتشارك القصص أمكنة متنقلة وعابرة تجسدت في (بوابة الفندق في حامل المظلة، وغرفة ومطعم في فندق، وملجأ في حكاية فاطمة) افتقاد الشخصية الإشكالية إلى حيز ثابت وقار تنتمي إليه، ومجيء تلك الأماكن المؤقتة والتي لم تخل من صور للمعاناة بشكل أو بآخر، يجعلنا بصدد إشكالية لا تكمن في تعارض وعيها وحسب، وسعيها غير المتحقق كما يشير (لوكاتش) بل في انتفاء الانتماء إلى مكان تتأصل فيه هوية البطل وكيانه كما أوضحت (سيزا قاسم) وبالتالي نصبح أمام بطل لم يفتقد إيمان الآخر به، كما هو عند (لوكاتش) بل افتقد إيمانه بذاته وبهويته ومكانه، وبذلك فجميع شخوص القصص لا تفلح في أخذ موقف حيال أزماتها، وهي لا تذهب أبعد من الشعور بالاغتراب والذي هو شعور لازم للشخصية الإشكالية، التي جاءت في النص العربي، -وبخاصة وليد الحروب- شخصية تكاد تكون معدمة أكثر منها إشكالية.
** **
- بسمة بنت خالد النفاعي
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com