كان في إصرار أبي فهد عبد الرحمن العثيم على مبادئه دروس أفدت منها فائدة كبرى، لقد عاش تحولات كبرى، في الزمان والمكان، في البشر والحجر، كانت لندن أول بلد يهبط فيها بعد بلده، تغيرت البيئة، ولم تتغير مبادئُه، أتيح له كل شيء، فلم يعرف جنوحًا في الفكر، ولا حيادًا عن العقل، كان تخصصه منفذًا لفضاء مفتوح، بمناهجه الفلسفية، ومدارسه المختلفة، لا تحدها الحدود، ولا تعرف الأطر، فظل متمسكًا، لم تزده تلك المناهج إلا معرفة وسعة أفق، وقدرة على الاستيعاب، والمقارنة والتحليل، التي استعملها ليثبت ما تربى عليه من دين وأخلاق.
عاد عبد الرحمن بعد الماجستير مباشرة، وكنت قد كلفت برئاسة قسم اللغة العربية، فكانت عودته عندي ذات وجهين:
وجه مستحب، فإن وجوده في القسم إضافة، فهو إن كلف بمحاضرات قبلها دون تلكُّؤ أو تشكِّي، أو طلب تخفيف، أو اقتراح بدائل، وأداها كأحسن ما تؤدى، انضباطًا والتزامًا، وإن أوكل إليه عمل إداري قام به خير قيام، بل إن اليوم يمضي معه سريعًا، فهو لا يعمل فقط، وإنما يضيف إلى المكتب جوًّا علميًّا ثقافيًّا رائعًا، بذوقه الأدبي، وأسلوبه القصصي، ونظره التحليلي الدقيق.
والوجه الثاني غير مستحب، فإن محض النصيحة للمعيد والمحاضر تتضمن سرعة إنجاز هذه المرحلة، فهاتان وظيفتان مؤقتتان، مجحودتا الفضل، مغبوطتا المكانة، لولا ما يشعر به المعيد من فرحة التعيين بالوظيفة لما أطاقها، ولولا نشوة المحاضر بالحصول على الدرجة لما تحملها، فلا يزال كل منهما في طرف الصف، وفي مؤخرة الرحل، في الجو الجامعي، ما لم ينل الدكتوراه.
اصطحبنا عام 1433هـ إلى مؤتمر في لندن، فكان نعم الصاحب في السفر، وقد رأيت من أمانته ما أسأل الله أن يرفع به منزلته عنده.
كان شابًّا أعزب، وفي مجتمع يرى فيه كل شيء بين يديه وعن يمينه وشماله، أسر لي يومًا بأن أولاء الشقراوات لا يلفتن نظره، بله أن يُشغلَ بهن قلبُه، وأن من يلفتن النظر عنده، ويسلبن اللب، فتيات فئة أخرى، أخبرني بها، حتى إذا كنا معًا ذات ضحى نسير في محطة (المترو)، ننتقل من قاطرة على أخرى، ونصعد من سلم إلى سلم، وفي أثناء ذلك، تلعثم في الحديث، وطأطأ رأسه، وغض بصره، وتغير لون وجهه، وما أدري ما أصابه، وإذا هي قد مرت واحدة من فئته التي تلفت نظره! ووالله لو نظر إليها متأملا لما فطن له أحد.
لم يكن ذا تدين مظهري زائف، بل كان ذا إيمان راسخ، وأخلاق عالية، وخوف من الله ومراقبة له، وكم من محصن مصطبغ بشيء من صبغة التدين، يطلق بصره لمن تلفت نظره، فلا يكاد يغضي عنها! فسبحان من أعطى ومنع.
كان عبد الرحمن بارًّا بوالديه، وقد جمع والبرَّ لينًا وعطفًا صادقًا، ورحمة اشتمل عليها قلبه، طوَّعت له البر، وسهلت عليه الواجب، فسابق إخوته لوالديه، مع انشغاله وإمكان تفرغهم، وقد أصيب والده بمرض، ثم والدته بمرض أخطر منه، فوجد من ذلك في نفسه غصة ومرارة، وتفرغ لهما، مع ما يحيط به من عمل متراكم.
زارني ليلة يحدثني في شأن عمله وبعثته، وما طرأ لوالديه، مستمهلاً ومعتذرًا، فما إن أدانا الحديث إلى ذكر المرض ومآله، حتى كاد يفقد تجلده، وينفجر باكيًا، لولا أني حوَّلت وجهة الموضوع.
حاولت جاهدًا أن أُغَلِّبَ العقل على العاطفة، وأثنيه عن تأجيل الدراسة، بإملاء من الواجب الوظيفي، لا العاطفي، لوجود بعض من ينوب عنه في خدمة والديه، ولكني لم أفلح، فلم أستطع مقاومة عاطفته ولا عاطفتي.
أشفق على والديه إذ مرضا أي إشفاق، وخشي فراقهما أشدَّ خشية، كما خشي فراق زوجته لما مرضت، وخاف اليُتم على أبنائه، فسلم الجميع، ورحل هو إلى بارئه.
انتقل أبو فهد إلى جوار ربه، ليلة الثلاثاء، 11 جمادى الآخرة 1439هـ، رحيلاً مفاجئًا، بسكتة قلبية، فما أقصر الحياة! وما أسخف المخاوف! وما أجهل الإنسان وأغفله عن مصيره!
بَكَيتُكَ يا أُخَيَّ بدمعِ عيني
فلم يُغنِ البكاءُ عليك شيَّا
وكانت في حياتِك لي عِظاتٌ
وأنت اليومَ أَوعظُ مِنكَ حَيَّا
لم يهن علي أن أحذف رقمه من جوالي، وظللت بين الحين والآخر، حتى يومنا الذي نحن فيه، أستعرض الرسائل بيننا، وكان من آخرها تعليقه على تغريدة لي ببيت شوقي:\
وإنَّا لم نُوَقَّ النقصَ حتى
نُطالبَ بالكمالِ الآخرينا
«الله عليك، وعلى اختيارك، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت».
رحمك الله أبا فهد.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم