تزامن مع إقرار وزارة التعليم ما سمّته (دمج الصفوف الأولية) جدل حاد في قضية تربوية تعليمية، هي في الأصل من اختصاص وزارة التعليم، ومن صلاحياتها بتفويض من ولي الأمر في هذه البلاد المباركة. وحقيقة الأمر إن ذلك يعني ضمّ الصفوف الابتدائية الدنيا (الطفولة المبكرة) في مدرسة واحدة، يدرّس فيها معلمات لا معلمون، مع الالتزام بما يلتزم به كل العالم من تخصيص دورات مياه للذكور، وأخرى للإناث.
ولأن هذا الأمر الجلل يهم جميع فئات المجتمع فقد انبرى كلٌ يدلي بوجهة نظره. وهذا أمر لا غبار عليه ولا إشكال فيه؛ فلكلٍ الحق في إبداء وجهة نظره مع الاحتفاظ بحق الآخرين بوجهة نظرهم، والالتزام بما تقرره الدولة ممثلة في وزارة التعليم. ومثل ذلك ما يحدث في العالم المتقدم؛ إذ تختلف الآراء لكن يبقى الحسم واتخاذ القرار من حق الدولة. ولنا نموذج في معارضة بعض الوزراء والنواب البريطانيين لقرار الحرب على العراق، لكن حين قرر الحزب الحاكم الحرب لم يسع المعارضة إلا أن تكفّ عن انتقاد الحرب وتصطفّ مع الدولة. وحري بنا ونحن المسلمين الملتزمين بمبدأ السمع والطاعة أن نكون ملتزمين كذلك فيما يصدر عن الجهات المختصة، خاصة إذا كانت القرارات تحظى بدعم من الحكومة الرشيدة؛ فهي صاحبة الحق الأوحد في القرار النهائي، لا ينازعها إلا خارجي شرعًا، وخارج عن القانون في الحكم المدني.
إلا أنني على الرغم من ذلك أرى وزارة التعليم قد قصّرت في توضيح ملابسات هذه القضية الشائكة، وهي التي تزخر بقيادات العلم ومهَرة الأكاديميين الذين لا يعجزون عن نقاش الجوانب التربوية نقاشًا مستفيضًا؛ بل اكتفت باتخاذ موقف دفاعي، جعلنا نحس بأنها تشعر بداخلها بأنها مترددة، مما زاد الجدل، وقوّى الموقف المضاد لها. ولم يخبُ الجدل إلا بعد إجابة سمو أمير الرياض للإعلام حين سُئل ليحسم الجدل بأن الدولة سائرة في تحقيق قراراتها. وفي ظني إن الوزارة حين اقتصر دورها على توضيح اللبس والتطمين السطحي بعدم الاختلاط، واتخاذها الموقف الدفاعي، دفع بالجدل إلى أن ينحو منحى جدل اجتماعي ثقافي تربوي تعليمي ديني تاريخي... (جدل خليط).
حقيقة، لا أفهم الموقف الدفاعي الذي اتخذته الوزارة حين أسندت صفوف التعليم الابتدائي (الدنيا) إلى معلمات؛ ففي الأدبيات، وكذلك في الواقع التربوي في العالم المتقدم (أنقل من تجربتي في بريطانيا وقراءاتي في تخصصي)، أن الأصل في تدريس المرحلة الابتدائية كلها تقريبًا هو العنصر النسائي، وتقلّ نسبة المعلمين الذكور؛ إذ ينظر المجتمع إلى تدريس الذكور للابتدائي بشيء من التوجس والريبة والتندر! وهي قد تكون نظرة مماثلة لتراثنا في التقليل من شأن (معلم الصبية) أو النظر إلى المرأة على أنها لا تعدو أن تكون (مربية) للأطفال! وقد لا تروق هذه النظرة لأصحاب التوجه النسوي المتطرف، وربما يرون فيه انتهاكًا لمبدأ المساواة بين الجنسين في التوظيف، وقد يرونه رجوعًا للخلف في تخصيص بعض المهن للنساء بينما الذكور لهم مهن أخرى!
ويذكر أحد الباحثين أن معلم الابتدائي الذكر قد يُنظر إليه بشكّ في ميوله الجنسية! وأنه لا بد من خلال هذه النظرة من أن يُتأكد من خلوّه من السوابق المخلّة بالآداب. ومما يؤكد هذه النظرة واقعًا أنني حين كنت مستشارًا في مكتب التربية في ليدز في إحدى المدارس كانت هناك شكوى من أن نسبة معلمي المرحلة الابتدائية تتراوح ما بين 1-3 % من مجمل عدد المعلمين والمعلمات، وكانوا يبحثون في إيجاد محفّزات للمعلمين لإبعاد نظرة التقليل، وكذلك لحل مشكلة المعلم؛ إذ يُعامَل كالعامل اليدوي (للإصلاح وحمل الثقيل والفك والتركيب)، أي يُستغَل بناء على بنيته الجسمية!
على أية حال، فوزارة التعليم - في رأيي - لم تخطئ في تصرفها، لكنها أخطأت في التعاطي مع الجدل، خاصة حيال مواقف الرفض التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الطبيعي أن أي تجديد وإصلاح وتطوير في الجانب التربوي يُتوقع له مقاومة؛ لأنه من أبطأ المجالات في التغيير، وأقلها استجابة للتحديث حتى في العالم المتقدم (انظر: العصيمي، صالح، 2016. السياق التعليمي: دوره في العملية التعليمية وعلاقته بالإصلاح والتغيير). وقد كنت آمل من الوزارة - وهي التي تغرس في أبنائنا التفكير الناقد، ومهارات التحليل المنطقي، ومهارات القرن الواحد والعشرين - أن تمارس هذا الغرس بنفسها مع المجتمع في المسائل الشائكة بأن تعقد مؤتمرًا صحفيًّا أو لقاء علميًّا، تناقش فيه القضية من أبعادها المختلفة (الإيجابية والسلبية)، مع التشديد على أنها على وعي بالتداعيات السلبية المحتملة، وستتخذ التدابير اللازمة للحد منها، والتقليل من آثارها. وهذا هو الجانب الأهم والمقلق لدى من يرفض توجُّه الوزارة. وهو ما علّمناه ديننا الحنيف في الأوامر والنواهي حين اختلاطها بالمنافع والآثام؛ إذ يشير الحق سبحانه إلى المنافع والآثام في أي مأمور وأي منهي عنه، لكنه يرجّح جانب المنافع في المأمور به {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وحديث (حُفت الجنة بالمكاره). ويرجّح سبحانه جانب الآثام في المنهي عنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا...}. ولو سلكت الوزارة هذا المسلك لاطمأن الرافضون، وقدّروا المهنية التي تتمتع بها الوزارة. وهذا - في رأيي - أفضل من الموقف الدفاعي الذي اتخذته الوزارة، وحاولت توضيحه للمجتمع من أن الدمج اختياري وتدريجي، وأنه لا وجود لاختلاط فعلي، لا في الفصول، ولا في الفُسَح، وغيرها من التطمينات. بل انبرى بعض قيادات الوزارة لتوضيح أن المعلمة أفضل من المعلم في احتواء الأطفال والتعامل معهم، وتابعه في ذلك أحد المختصين في تويتر؛ ليشدد على هذه المقولة ذات الاتجاه الأحادي الذي يُملي ولا يشفي! ففي ظني إن الناس صارت تعي ولا تكتفي بالشرح الأحادي؛ فلا بد من ذكر ما يُتوقع منشكالات مثل:
هل هناك عدد كافٍ من المعلمات المؤهلات للتعامل مع الأطفال الذكور؟
ما مصير المعلمين الأكفاء ذوي الخبرة الطويلة والثرية في الميدان؟ هل ستستفيد منهم الوزارة بوصفهم ثروات وطنية وكنوزًا تربوية أم ستتجاهلهم؟
ألا يُتوقع أن تتعامل المعلمة بشيء من التحيز إما لصالح جنسها ضد الذكور، أو العكس؟ هل ستتعامل المعلمة بتوازن مع ذلك بدافع فطرتها أم هل ستخضع للتدريب في هذا المجال؟ وهل ستتولى الوزارة تدريب المعلمات أم ستعوّل على فطرتهن وطبيعتهن؟
وكيف ستتعامل المعلمة مع الأطفال الذكور المشاكسين والمتنمرين عليها أو على الصغيرات؟ هل لديها تدريب على التعامل مع هذه الحالات؟
كيف ستتعامل المعلمة مع الأطفال الذكور الذين يرفضون أن تتولى معلمة تدريسهم؟ فقد يعبّرون عن رفضهم بالمشاكل السلوكية أو بالمقاومة الصامتة (الصمت وعدم التعلم). أتذكر في هذا السياق حين كنا مسؤولين في المدرسة السعودية في ليدز أننا نُضطر للاستعانة بالإخوة والأخوات العرب للتدريس، فكان من ضمن من استعنّا به معلمة فاضلة ليبية، صادف أن تكون معلمة الدين للرابع والسادس الابتدائي، وكان من بين الأطفال طالبان سعوديان، يسببان لها الكثير من المشاكل والمتاعب، فلما توليت التقصي ظهر لي أن هذا تعبير منهما عن رفضهما لامرأة (وغير سعودية)، تعلمهما أمور الدين!! وقد تشرّبا هذه النظرة من أبويهما الزميلين لنا حسب إفادتهما!
كيف ستتعامل الوزارة مع الأصوات التربوية التي تنادي بعودة المعلمين إلى الصفوف الأولية لوجود إيجابيات لا تقوم بها المعلمة؟ والعكس صحيح.
هذه الإشكالات وغيرها هي التي - في ظني - تستحق أن توليها الوزارة الاهتمام، وتطمئن الناس حولها، وتُخرس الأصوات المؤدلجة التي تستغل مثل هذه الإصلاحات للتهييج والإثارة بدافع أيديولوجي صِرف.
وفي الختام، أود أن أؤكد أن حسم الجدل من سمو أمير الرياض - وهو المعبّر عن الموقف الرسمي للسلطة الحاكمة - يجب أن يؤخذ بالتسليم والقبول، ولا مجال لأي امرئ يؤمن بمبدأ السمع والطاعة، أو يتمثل الانتظام في المجتمع المدني، إلا أن يقول سمعنا وأطعنا والتزمنا. فلا مجال للعبث والثورة والتحريض في ساحات التواصل الاجتماعي من أجل أمر غير متفق عليه. أعتقد أن دورنا نحن المختصين والآباء والمهتمين يتوقف على مساعدة الوزارة في التعاطي مع ما يطرأ من إشكالات طبيعية، حالها كحال أي أمر آخر في مراحل الإصلاح والتطوير والتحديث، حتى وإن كنا أو كان أغلبنا لا يتفق مع الوزارة في ذلك.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي