هل كانت تلك سفرتنا الأخيرة إلى الرسّ؟ ما عدت أذكر! كل ما أذكره أنَّ والدي صار يلحُّ بالسفر لزيارة أخيه الكبير سليمان -رحمه الله- كلما واتته الفرصة، وكأنّه يتزوّد منه قبل رحيله. أذكر ذلك، كما أذكر وجه عمّي سليمان، وابتسامته الحلوة الصبورة، لم تفارق محيّاه قط رغم تمكن العلّة من جسده.
كان طريق القصيم من الفرص النادرة التي أختلي فيها بوالدي أربع ساعات متواصلة، فأنهل من علمه ورأيه وحكمته، وربما اهتزّت روحه وهو يرى مراتع طفولته تتابع أمامه فينشدني شيئًا من عيون الشعر. كانت الكيمياء الروحية تبدأ بالتفاعل بمجرد تجاوزنا نفود الثويرات، فإذا بأساريره تنفرج، وملامح وجهه تتغير، وإذا به يشير إلى الرمال والوديان شارحًا كيف أنّ الترابَ غير التراب، والهواءَ غير الهواء، ثم يبدأ يحدّثني عن زهير ووادي الرسّ، وعنترة وعيون الجِواء، وامرئ القيس وأبانات، وكيف أنّ كل شبر من هذه الأرض المُعرقة في القدم معجونٌ بماضٍ سحيق، وقد يهتزّ طربًا، وتأخذه الأريحية، فيبدأ ينشدني بعض قصائد هذه الأرض وما جاورها من تربة وطننا الغالي. يبدأ عادة بمالك بن الريب وقصيدته التي يتوجع فيها إذ يموتُ بعيدًا عن وادي الغضا:
أقولُ وقد حالت قُرى الكردِ بيننا
جزى الله عَمرًا خيرَ ما كان جازيا
إنِ الله يُرجعني من الغزوِ لا أُرَى
وإنْ قلَّ مالي طالبًا ما ورائيا
فللهِ درّي يومَ أتركُ طائعًا
بنيّ بأعلى الرَقمتينِ وماليا
ودرُّ الظباءِ السانحاتِ عشيّةً
يخبّرنَ أني هالكٌ من ورائيا
يتلوها بصوته القويّ الأجشّ، ونبرته الحلوة المُحببة، حتى ليُخيّل لي أني أنطلقُ بسيارتي من قرى الكُرد أو الطَبسين ومعي ابن الريب يتمدد في مرتبتي الخلفيّة، قاطعين به الفيافي والقيعان، مسابقين أجله المُحتّم، لا لشيء إلا كي يلفظ أنفاسه في دياره في القصيم. وقد ينشدني عينية مُتمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك، فيرفع عقيرته بصوتٍ شجيّ:
وكنا كندمانَي جذيمةَ حقبةً
من الدهرِ حتّى قيلَ لن يتصدّعا
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكًا
لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا
فإخال أنَّ القصيدة لم تتغلغل -كما يجدر بها أن تتغلغل- إلا في قلوب ثلاثة: مُتمم بن نويرة، وعمر بن الخطاب، ووالدي. وقد يتذكر مولده في قرية الشقيق الساحلية، وكيف جِيء به يتيمًا من الجنوب إلى الرسّ، فينشد مع عبد يغوث بن صلاءة الحارثي:
أحقًا عبادَ الله أن لستُ سامعًا
نشيدَ الرعاءِ المُعزبينَ المتاليا
وقد تبثُّ به الصحراء شيئًا من وحشتها اللذيذة، فيتوحّش ويستأنس، وقديمًا كان حتمًا على إنسان هذه الأرض أن يتوحّش ويستأنس، فيُنشد مع الأحيمر السعدي:
عَوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عَوى
وصوّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
وينتقل أحيانًا بكل أريحية من الفصيح إلى العامي، ومن العامي إلى الفصيح، فينشد وصيّة الشريف بركات إلى ابنه مالك، ويعدّها من غُرر الشعر وكنوزه:
يا مالك اسمع جابتي يوم أوصيّك
وافطن ترى يا بوك بآمرك وانهاك
احفظ دبشك اللي عن الناس مغنيك
اللي ليا بان الخلل فيه يَرفَاك
واعرف ترى مكّة حكمها بناخيك
لو تشحذه خمسة ملاليم ما اعطاك
اجعل دروب المرجلة من معانيك
واحذر تميّل عن دَرَجها بمَرقاك
وصلنا بيت عمي سليمان مع انحدار الشمس، وتبادلنا السلام والقُبلات. جلس والدي إزاء أخيه، واختلس نظرةً عجلى إلى قدميه -بسرعة لا يتقنها سوى الأطباء- كي يطمئن على عضلة قلبه. نعم، الآن تذكرت: كان الشهر رمضانَ، وكنا ننتظر صوت المؤذن للإفطار، وكان الحديثُ يدور كيفما اتفق، ولا شيء أطيب في لحظات مثل هذه من حديث الذكريات. تذاكر عمي ووالدي أسماء كانا يحفظانها من طفولتهما: ماذا فعل فلان؟ وأين انتهى علّان؟ وكان ممن ذكروا امرأةٌ طاعنة في السنّ، من عجائز الرسّ، روى عمّي -بتوجع- كيف أنّ الخَرَف عصف بها فجأة حتى أذهلها عن صيام هذه السنة، قالها باستنكار الشيخ الورع الذي لا يتصور أمرًا جللًا أعظم من هذا. ابتسم والدي بحنان وقال: لا بأس عليها، إذا كنتم تبيحون الفطر في سفر الثمانين كيلًا، فما بالك بمن سافر ثمانين سنة؟ كان عمي من خريجيّ الشريعة الإسلامية. عُيّن قاضيًا لكنه رفض المنصب تعففًا وورعًا، لهذا خاطبه والدي ضمن علماء الدين، رحمه الله ورفع نُزله في الجنة.
رجعنا إلى الرياض، لكنّ كلمة والدي بقيت ترنّ في أذني: «فما بالك بمن سافر ثمانين سنة؟» يا له من مجاز! أليس هذا ما يطلبه الشعراء ويعجزون عنه؟ كنت وقتها مهمومًا بمسألة الشعر. إذا لم يكن الشعر مجازًا يأتي في مكانه ووقته المناسبين، ويكون خلفه قلبٌ عطوفٌ خيّر، ماذا يكون إذن؟
** **
- د. عدي بن جاسر الحربش