أعترف أني لم أكتب هذه السطور لغرض علمي، أو لغاية فنية، أو لتدوين ما أخشى فقده، أو لتحرير ما أرجو حاجته، وإنما كتبتها بعد أن مَلَّ مَن حَولي من بثي، ومن إبداء حزني، ومن ذكر من فقدت على حين فجأة، وبعد أن بل دمعي وسادتي، وأفرغ جيبي مما أحمله لإخفائه، ملوا وما نفد، واشتغلت بغير ما أجد فما شُغلت، وتلهيت فما لهوت، يعيد لي الوجدَ صورة من هنا، وحديث من هنا، وكتاب أو رسالة، أو قصة أو قصيدة، أو موعد مسبق، ننتظره للقاء، فما كان، وكان قدر الله أسبق.
أأقول صديق وأنا في عمر أبنائه؟ أو أستاذ ولم أجلس أمامه في مقعد دراسة؟ أو جار وليس جارًا؟ إنه في نفسي أعظم من ذلك كله!
مرت سنون العمر، وفقدنا كثيرًا من أحبتنا، ولكل فقد وقع، ولفقد أبي إبراهيم وقع مختلف.
الإحسان قيد، وأعظم الإحسان صدق الود، لقد صدق وده فقيدني، فكان من أود من صحبت، وأقرب إلى نفسي من كثير ممن عرفت.
لقد حمل بين جنبيه نفسًا جياشة، رحيمة حفية، تدمع إذ يثيرها موقف، أو تتمثَّل حالة إنسانية، يصورها البيان، شعره أو نثره، تختفي هذه النفس تحت قبة من المهابة، وجِلال من الجَلال.
عرفته في مجلس العم الشيخ علي الزامل -رحمه الله- عام 1417هـ، كان أول لقاء به هناك، في موقف لا يمحوه تتابع السنين، وتقادمها، وتوارد الأحداث وتشابهها، حين صدر كتابي (التعليقات الجوهرية على متن الآجرومية)، مطلع عام 1417هـ، وأردت إهداء نسخة للشيخ علي الزامل، فأخذت نسخة وكتبت الإهداء عليها، وقصدت مزرعته، وكان يوم ثلاثاء، من غير سابق علم بمجلسه ذلك اليوم، فأتيت وإذا هو جالس مع ابنه محمد، قبل أن يلتئم المجلس، فسلمت وجلست، وتحدثنا قيلاً، ووضعت النسخة على المُتَّكأ بجوار الشيخ، وأخبرته خبرها.
وما هي إلا دقائق معدودة، حتى اجتمع الناس، فأخليت مكاني بجوار الشيخ لمن هو أكبر مني سنًّا، وكلهم أكبر، أصغرهم بيني وبينه عشرون سنة، وكان ممن حضر أبو إبراهيم -رحمه الله- تملأ مهابته المكان، نبرته وكلماته، نظرته والتفاتاته، وجلس بجوار الشيخ، بمكاني الأول، فكان كتابي تحت يده، وكنت أراه ينظر فيه، وأنا مشدود إلى نظراته، معنيٌّ بتعبيراته، أهي إعجاب أم غير ذلك، ولكني لم أستبن من ذلك شيئًا، وقد كرر النظر، وفتح الصفحة الأولى.
كان ذلك أول عهدي بمجلس الشيخ، فما تركته مذ ذلك اليوم، أحرص عليه أيما حرص، ووجدت فيه فوائد وطرفًا، وحكمة وكريم خلق، كنت إذ ذاك في منتصف الدراسة الجامعية، وكنت لاجتماعٍ بأهل التخصص أشد ما أكون حاجة، فاستفدت أيما فائدة، وعلقت بهذه المجموعة خير علقة، وكان من أبرزهم وأكثر أثرًا أبو إبراهيم -رحمه الله- ونشأت من ذلك اليوم، بيني وبينه، علاقة وطيدة، تبنيها المودة والاحترام.
كنت طالبًا، وكان أستاذًا متقاعدًا، جاوز الستين، ولكنه في ثوب الصديق المحب، نظرات الود تبرق بها عيناه، ونبرة الإعجاب توحي بها كلماته، فلله هو من كريم معشر!
جرى ذات ثلاثاء ثمَّ حديث عن قصيدة النثر، واحتدم النقاش في المصطلح، فداخل -رحمه الله- بعبارات واثقة، وجمل متكاملة مترابطة، يتبع بعضها بعضًا باسترسال بديع، فكان مما علق بالذهن من قوله: ... قرأنا (العَبرات) وبكينا، و(المعذبون في الأرض) وبكينا، و(البؤساء)( ) وبكينا... وقرأنا وقرأنا... وبكينا.. أثارت الشعور، وفاضت المشاعر، داخل كلامه قلبي، وكأنه يترجم ما في نفسي، وصادف أن كنت حينها أقرأ (العبرات).
ولكن لكل أمد نهاية، فلم نمهل في ذلك اللقاء الذي لم أظفر به إلا متأخرًا، حيث توفي الشيخ علي الزامل -رحمه الله- في 26 من جمادى الآخرة عام 1418هـ، وانفرط عقد المجلس، بعد سنة من انتظامي فيه، واغترافي من معينه ومعين صحبه.
أمضيت قرابة سنتين، أتحسّر على ذلك المجلس، وأسترجع ما فيه، حينًا بالكتابة، وحينا بالذكرى، وحينًا بالحديث مع رواده، وكان من أول ما نتحدث به إذا التقينا بأبي إبراهيم في ذات حين صدفة، اقتراح إعادة اللقاء الدوري، والنظر فيما يناسب من زمان ومكان، غير أن ذلك لم يتيسر، حتى سلخنا عامين أو يزيد.
وفي أوائل عام 1420هـ دعاني الصديق العزيز سامي بن عبد الرحمن البسام إلى مجلس والده الوجيه المؤرِّخ عبد الرحمن بن إبراهيم البسام، عصر الجمعة، حيث كان يجتمع فيه رواد مجلس الشيخ علي الزامل، ينقص منهم واحد أو يزيد واحد، فانتظمت في ذلك المجلس، أجد فيه من الشغف والفائدة ما أجد في سابقه، لا أكاد أتخلف عنه أبدًا، حتى أنني شرفت بالنيابة عن العم عبد الرحمن حينما اعتذر لطارئ صحي، فاستقبلت رواد المجلس في بيتي، حتى عاد من سفره، فكان ذلك لي شرفًا، شرف النيابة عنه، وشرف استقبال أولئك الكرام.
مُتعنا بذلك المجلس وأهله اثنتي عشرة سنة، حتى انتقل العم عبد الرحمن البسام إلى رحمة الله في التاسع من ذي القعدة عام 1432هـ.
وبعد هذا لن يطاق طول فراق، فلم يمض إلا زمن يسير، حتى تواصلت مع أبي إبراهيم، واتفقنا أن نجتمع، فكان الموعد عنده -رحمه الله- عصر الأحد، أول الشهر، أوائل سنة 1433هـ، واستمر لقاء دوريًّا بيننا، يضم نخبة ممن كانوا يحضرون المجلسين السابقين، الأستاذ محمد السليمان الشبل، والأستاذ عبد العزيز العبد الرحمن البسام، والدكتور أحمد بن عبد العزيز البسام.
لله ذلك اللقاء! ما مقداره عندي! وما أثره في نفسي! والله إني لأحسُبُ له فأبتهج إذ يقبل، وإن تكرر ما فيه من الحديث، وما يطرح فيه من المسائل والأسئلة، إلا أن جو المجلس الأبوي، ومستوى الحديث الأخوي، وشحنات الإيجاب المتتابعة، وجرعات الاحترام المتبادلة، يرفع مقامه، ويزيد به الشغف والكَلَف.
في تلك المجالس حديث عن عنيزة، أحيائها وأسواقها، حديث عن البشر والحجر، يصفونها فيما بينهم وصفًا دقيقًا، فيتذكرون وأتخيل، يختلفون على التفاصيل، وأستجمع الصورة الكاملة، حديثهم لا يمل، وإن غلبت متعته فائدة مرة غلبت الفائدة مرات.
في تلك المجالس حديث عن التاريخ المعاصر، الذي عاصروه ولم أعاصره، القومية العربية، ومظاهرها في البلاد وتأثيرها، والحرب العالمية الثانية، دول التحالف والمحور، وعن موقف المجتمع المحلي منها.. فيها الحديث عن الشخصيات السياسية، أعمالها وما آل إليه أمرها، وما كتب عنها.. يعرض ذكر حدث من الأحداث فيجر الحديث إلى ما أحاط به، وأثره، ونتيجته، ذكروا مرة في مجلس الشيخ علي الزامل الشاعر سليمان الشريف، فأنشد الشيخ:
اللهُ أكبرُ فَلتَمُت يا إيدَنُ
فأكمل الأستاذ حسين الفايز -رحمه الله- وأبو إبراهيم بصوت واحد:
وَلينتَحِرْ مُولييه ذاكَ الأرعَنُ
فاستفسرت: من أيدن؟! ومن مولييه؟ فأوجز الجواب أبو خالد وفصل لي أبو إبراهيم.
كم كانت تلك المجالس، وخاصة مجلس الأحد الأخير، مثارًا لبحث شيء لا أعرفه، فأعود لأقرأ عنه، وخاصة ما يتصل بالثقافة العامة، الصحف وكتابها، وأبرز مقالات الأسبوع، ويتوجونها غالبًا بموقفهم منها، ومختصر رأيهم في كاتبها... أنا مدين لهم، ولأبي إبراهيم خاصة في هذا الباب أيَّ دين.
ومن أواخر الأحديات، في مجلس أبي إبراهيم، إن لم تكن آخرها، ذكر -رحمه الله- رثاء البارودي لزوجته:
أَيَدَ المنونِ قَدَحتِ أَيَّ زِناد
مستعذبًا عليه رحمة الله قوله:
يا دَهْرُ فِيمَ فَجَعتَنِي بِحَلِيلة
كانَت خلاصةَ عُدَّتِي وَعَتادي
إِنْ كُنتَ لم ترحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِها
أفلا رحِمتَ منَ الأسى أولادي
فبحثت عنها في الشبكة، وقرأت عليهم ما تيسر منها، أتفرّس وجوههم بعد كل بيت لعلهم ملوا فأقف، حتى أتيت على أكثر أبياتها أو كلها، نسيت الآن.
كان يوم الثاني من المحرم 1441هـ، موعدنا الدوري، عند د. أحمد البسام، وقد أكد لنا الموعد وحضور الجميع، واستأذنته بالتأخر قليلاً، لظرفي والدتي الصحي، فلما حضرت وإذ لم أجد أبا إبراهيم، بادرت بالسؤال وأنا آخذ مكاني من المجلس: إذن أبو إبراهيم اعتذر! فكان ثم سكتة يسيرة، أوجز العم عبد العزيز البسام الجواب، وفصله د. أحمد.
كانت الحالة حرجة، ولكن الأمل باق، مضى يومان ثقيلان، حتى إذا كان صباح يوم الثلاثاء رأيت رؤيا قصيرة: كأن قائلاً يقول لي: (صاحبك العُمير توفي) و هذا زميل لنا من موظفي الجامعة. فلما انتبهت وقع في نفسي أنه العمرو وليس العمير، وما هي إلا سويعات حتى جاءت رسالة أبي يزن بخبر القضاء المحتوم.
ما أقصر الدنيا، وما أسرع تغيّرها!
لقد فقدنا أقرباء ومشايخ وأصدقاء، غير أن من كان فقدهم مفاجئًا أكبر وقعًا، وأعظم أثرًا، وخاصة من يربطنا لقاء خاص، وعلاقة خاصة، ومودة خاصة، كيف يسوغ اللقاء دونهم، وما شأن الأسئلة التي لم نجد بعد جوابها، والقصص التي لم نستقص بعد تفاصيلها، والأحداث التي لم نفك رموزها ... والمودة ما شأنها! والمحبة والأنس، وجرعات التشجيع، ألسنا ننتظر اللقاء لنعود..؟!
هنا صحيفته في الركن مهملة
هنا كتابٌ معًا كنًّا قرأناه
لم يكن ثم حاجة إلى استحثاث الذاكرة لاسترجاع المواقف والأحداث، والأحاديث، والتواصل المستمر، الذي لم يكن العمر عائقًا، ولا الفرق فارقًا، فقد كانت حاضرة في ذهني، رطبة طرية، آخر تواصل مع أبي إبراهيم قبل وفاته بثلاثة أيام، لما اتصل يسأل عن والدتي، حينما علم بدخولها المستشفى.
لا يستغرب منه هذا، فقد جاء من مبادرته ما هو أعظم، فكم بادر بالمعايدة اتصالاً، إي والله، وأنا في سن أصغر أبنائه، في حين يغفل عن ذلك أقرب الأقرباء، وأعز الأصفياء، ممن لنا حق عليهم.
كثير هم المتوددون، يقطر من ألسنتهم العسل، تنكر نفسك من تقربهم، وتخجل من ثنائهم وتحببهم، يحلفون على المحبة، ويلهجون بالدعاء، الابتسامة تشق وجوههم، والكلمات والحركات والنظرات تتسابق في ألوان الإكرام، ومع هذا كله لا يبقى في نفسك إلا تحمُّل رد الجميل، وحمل الهم له!
أما أبو إبراهيم فمختلف جدًّا، كلمات يسيرة، سمعتها منه، ما زلت حتى هذه اللحظة أستطعم ماذيها، وأقتبس من دفئها.
توفي أخوه العم أحمد التركي -رحمه الله- عام 1422هـ، وكنت غائبًا عن عنيزة، أوان دراستي للماجستير في الرياض، فلما عدت آخر الأسبوع، أدركت يومًا من العزاء، فعزيت أبا إبراهيم، واعتذرت بسفري، فقال: (إي والله، أنت تفقد)، كلمة أعدها من غيره عابرة، ولكنها منه غير ذلك.
وللعم أحمد مواقف لا أنساها، لما كان إمامًا لمسجد حي المطار، وكنا نزلنا في الحي سنة ونصف، من شوال عام 1402هـ، وقت إعادة بناء بيتنا في حي الشريمية، وكنت إذ ذاك صغيرًا قبل سن المدرسة، وفي الشريمية كنت حريصًا على مصاحبة والدي للمسجد، فكان يأخذني ويجلسني عند بابه الخارجي، فالصغار محظور عليهم دخول المسجد، وفي عصرية شاتية، أخذ والدي عطفُ الأبوة، فلم يهن عليه مقعدي في البرد، فأدخلني معه، ونزلنا لـ(الخلوة) القبو، وأشار إلى مكان عند آخر عتبة في الدرج أنِ اجلس هنا، وما إن أخذ مكانه في الصف، ودخل في تحية المسجد، حتى أقبل مؤذن المسجد نحوي من آخر المسجد مسرعًا، فأقامني من مكاني، وأخرجني، وما زال مقتفيًا أثري، حتى خرجت من بابه الخارجي.
ولما نزلنا حي المطار، واصطحبني الوالد للمسجد، وجدت غير ما أجد هناك، صرت أدخل المسجد، وأقف في الصف الثاني، والوجوه تبشِّر بالخير، وأولهم إمامهم أحمد التركي، بل إني وجدت منه تشجيعًا ودعاءً، وابتسامات رضا وإعجاب، حببت لي المسجد، وارتياده، فكان حرصي عليه متابعة لأبي وتقليدًا، فصار تعلقًا به لذاته، فربما تأخرت فيه بعد أبي، أو تقدمت قبله!
وجرى الحديث مرة في جلسة الأحد إلى ذكر القصة، وطردي من المسجد، فتضايق أبو إبراهيم، وكأن الحدث وقع أمس، والفاصل بيننا وبينه خمس وثلاثون سنة، ثم ذكرت أمر مسجد المطار، وتنفسي الصعداء فيه، وفضل العم أحمد، فما كان من أبي إبراهيم إلا أن قال كلمة عابرة من غيره، معبَّرة منه، نسيت نصها، وأدركت فحواها خير إدراك: أنت محبوب الجميع!
كم قيل لي أمثالها، ونسيت أكثرها، ولكن ما يصدر من القلب لا يُنسى.
ذكَّرته مرة بمجلسنا يوم الجمعة، مبديًا حرصي على حضوره، فقال: والله يا أبا عبد العزيز مجلسك، والمجلس الذي أنت فيه أسعد فيه أيما سعادة.
أسأل الله أن يسعده في قبره، ويؤمّنه يوم نشره، وأن يجمعنا في جنته، بحوله وقدرته، ووالدينا وذرياتنا وأحبتنا وإخواننا المسلمين.
لم أمل الحديث عنه بعد.. ولا زال ثَمَّ ما أود قوله ...
** **
فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - عميد كلية العلوم والآداب - جامعة القصيم