«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
بعد أن كان يعد اللمسات الأخيرة لبحث شامل عن «الإعلام السعودي»، خرج إلى شرفة منزله، في ضواحي باريس، إلا أنه وأثناء وقوفه بشرفة منزله فاجأت فقيد المشهد الوطني الدكتور عبد الرحمن الصالح الشبيلي حالة إغماء، أدت إلى سقوطه من شرفة منزله، حيث تم نقله إلى المستشفى، الذي ألزمه البقاء في العناية المركزة، نظرا للإصابات البليغة التي تعرض لها، حيث تم نقله بالإخلاء الطبي مساء أمس الأول إلى الرياض، لينتقل إلى جوار ربه عصر يوم أمس، بعد سيرة حافل بالعطاء، ومسيرة علمية وعملية متوجة بالتفاني والإخلاص والتفرد، عبر رحلة امتدت ما بين 1363 - 1440هـ، حيث ولد في القصيم، بمدينة عنيزة، متدرجا في المراحل التعليمية، ومنها إلى الرياض، ثم لإكمال الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه في الإعلام، حيث كان من أوائل الرواد الذين أسهموا في بدايات تأسيس إذاعة الرياض، والتليفزيون السعودي؛ إلى جانب تقديمه العديد من البرامج للتلفزيون؛ حيث حصل الشبيلي على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة أوهايو سنة 1971م، والماجستير في الإعلام من جامعة كانساس عام 1969م؛ كما رشح عضوا في مجلس شورى لثلاث دورات متتالية، إلى جانب إسهامه عضوا في المجلس الأعلى للإعلام بالمملكة، ومجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر، ومجلس إدارة مؤسسة «الجزيرة» الصحفية؛ إذ تم تكريمه في العديد من اللقاءات والمناسبات الثقافية والإعلامية، التي توجها تكريم الشبيلي بوسام الملك عبد العزيز من «الدرجة الأولى» في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية 31) تقديرا لإسهاماته في مجالات الإعلام، ولإسهامه الثقافي من خلال مؤلفاته، ومن خلال ما كتبه في الصحافة السعودية، طيلة عقود، إذ يعد الشبيلي أحد أبرز كتاب صحيفة «الجزيرة» ، حيث يعد - رحمه الله - من رواد الإعلام في المملكة، بوصفه أول سعودي يحصل على شهادة الدكتوراه في الإعلام، حيث ألف عددا من المؤلفات في موضوعات متنوعة عن الإعلام السعودي، تعد من المؤلفات المرجعية لكليات وأقسام الإعلام في المملكة.
وسم.. ورسم!
لقد خط فقيد المشهد الوطني عبر مسيرته الإدارية، التي كان القلم فيها رفيق حياته العلمية والعملية كاتبا ومؤلفا لأكثر من خمسين كتابا، ستظل في ذاكرة المشهد الثقافي، وفي ذاكرة الكلمة الوطنية في مجالات عدة، يأتي في مقدمتها التراجم والسير وتاريخ الإعلام السعودي.. مؤلفات تعكس المعرفة الشمولية، والعمق في الفكرة، والرؤية في المنهجية العلمية فيما قدمه للمكتبة السعودية والعربية من مؤلفات، بأسلوب سهل ماتع ممتنع، جعل من مؤلفات الشبيلي حاضرة بين أيدي القراء وأمام أبصارهم، ووعي بصائرهم، لما تتميز به من موثوقية، ومرجعية علمية رصينة، ما جهل من كتب الشبيلي مرجعا أصيلا للدارسين والباحثين، حيث أصدر عشرا المؤلفات، منها : نحو إعلام أفضل؛ وكتاب : إعلام وأعلام، ومؤلف بعنوان : صالح العبد الله الشبيلي - حياته وشعره؛ وكتاب : الإعلام في المملكة العربية السعودية - دراسة توثيقية؛ ومؤلف عن : محمد بن جبير؛ وكتاب : صفحات وثائقية من تاريخ الإعلام في المملكة العربية السعودية؛ وآخر عن : حمد الجاسر؛ وكتاب : الملك عبد العزيز والإعلام؛ وآخر بعنوان : الأمير مساعد بن عبد الرحمن آل سعود؛ وكتاب عنوان : أعلام بلا إعلام؛ ومؤلف بعنوان : خالد بن عبد الرحمن السديري، وكتاب عن : الشيخ عبد الله بن خميس؛ وآخر عن : عنيزة وأهلها في تراث حمد الجاسر؛ ومؤلف عن : إبراهيم العنقري؛ وكتاب : محمد الحمد الشبيلي؛ وآخر بعنوان : سوائح وأقلام في السياسة والثقافة والإعلام.. وغيرها من المؤلفات التي تناغمت وتكاملت مجالاتها لترصد الذاكرة الوطنية في مجالات علمية ومعرفية وتراثية متنوعة.
«مشيناها».. سيرة لا تعرف الفراغ!
كانت سيرة الفقيد عبد الرحمن الشبيلي، التي أخرجها في كتابه «مشيناها..» واحدة من أنفس السير في المشهد الوطني، فلقد تضمن الكتاب ذكر أكثر من 1600 اسم من الشخصيات والأماكن، إلى جانب ما تعهده الفقيد فيه من البوح والصراحة والواقعية، التي كان ينوي إخراجها إلى القراء لتكون سيرة بعنوان : «عمر بلا فراغ»، إلا أن رفاق المشورة الذين تابعوا مع الشبيلي مراحل ومحطات سيرته اقترحوا عليه عنوانا أكثر جذبا، فخرجت سيرته تحت عنوان : «مشيناها.. حكايات ذات»؛ التي قال عنها فقيد المشهد الوطني : في الواقع لم أكن مقتنعا في يوم من الأيام بالإقدام على كتابة هذه السيرة، وقد اختمرت فكرتها بعد أن أكرمني الوطن بالوسام، هنا ازدادت الدعوات بأن أقدم على كتابتها، وكان المسوغ لهذا الطلب هو أن صاحب الكتاب كتب سيرًا أخرى وبالتالي من حق المجتمع أن يتعرف على سيرته»؛ مردفا قوله : «بدأت تدوين سيرة ذات غير طامع في شهرة ولا ساعٍ لمجد، في تدوين سطور هذه الحكايات في مطلع رمضان المبارك عام 2017م، واختتمتها في نحو عام ونصف العام، دون أن أتبع فيها نموذجاً معيناً من التراجم، أو أحذو في تأليفها سيرة أحد ممن سبقني، واستهللتها برمز تراثي (الصنقر) الذي يذكر بالمكان والتاريخ والبيئة، لنشأة لم يكن فيها فرصة تسلي أو فائض زمن، إلا وظّفتها في عمل مرادف، فقد اعتدت أن يضيق بي بالفراغ، وأن أستثمر بواكير الأيام وساعاتها الضائعة، وأن اجعل قيمة التقاعد تنافس ما قبلها، حتى صار البعض يقول : «ليته تقاعد من زمن..!».
عندما حكى الشبيلي!
في مساء يوم الأحد من جمادى الأولى لعام 1438هـ، حضر إلى قاعة الملك فيصل للمؤتمرات بفندق الإنتركونتننتال بالرياض، حيث كانت تقام الندوة الرئيسة لمكرمي المهرجان الوطني للتراث والثقافة في دورته الواحدة والثلاثين، حضر في تواضعه المعهود، منصتا متأملا في وجوه المتحدثين عن المكرمين، وفي ملامح أوراقهم، ليرتجل في نهاية الندوة كلمة قال فيها : « أتشرف بالحضور، لأحتفي معكم، بالصديق الغالي الدكتور أحمد محمد علي، رمز النزاهة والإخلاص، وبالفنانة المبدعة صفية بنت سعيد بن زقر، الوجهِ المشرقٍ من بلادي، التي وظّفت الفرشاة للتعبير الإنساني والوجداني، فأبرزت بواسطتها تعبيرات الأصالة ومعاني العمق الحضاري للمجتمع، وحق للفن التشكيلي اليوم أن يفخر بهذا الاعتراف المضاف في الجنادرية.
ومضى في مداخلته قائلا : «لم أحضر تلهّفاً لسماع كلمات إطراء، وهي غالية عندي، فما بي من الغرور يكفي لوقف خطوي نحو استكمال مشروع تأخّرت بإنجازه، وسلبني الكرسي فرصة التقدم فيه، لكنني - يعلم الله - حضرت احتراماً لكل من سطّر بحق الدكتور أحمد علي والأستاذة صفية وبحقي حروفاً في التزكية، وأوقاتاً من التفكير من أجلنا، وما كان من اللائق أن ننصرف عن هذا المحفل الكريم، وأنتم مشغولون فيه بِنَا! وإنني أؤكّد في هذه المناسبة، أننا حُمّلنا بالتكريم ما لا نطيق، وأُلبسنا قمصاناً من التبجيل تفيض عن أحجامنا، وأن هناك رياحين وشقائق وأعزّة شركاء في حياتنا، هنّ وهم أولى بالنصيب الأكبر من الاحتفاء، لأنهم يقفون خلف الحُجب، يعيشون الصغيرة والكبيرة، يفرحون معنا، ويعشقون لأجلنا، يتحاشون وهج الأضواء، إنهم الأحباب الحاضرون هذه الليلة والحاضرات، فلهم ولكم التحية والاحترام.