في يوم الجمعة، العاشرة والنصف صباحاً، تتصل أمي وكأن الهاتف يستعجلني للرد، نعم، لا إجابة، سوى صوت بعيد يتهدج وعبارات الدعاء بالمغفرة، علمت أنها أمي فاطمة بنت محمد الصيخان قد فاضت روحها الطاهرة في هذا اليوم الفضيل.
أمي، ما بك ما الأمر، المهم بلغني الخبر، أمكم رحلت إلى ربها في المستشفى، الأجهزة تصرخ معلنة وفاة الأم والجدة والحنان والأمان، تلفت لا أدري أذهب لأيّ أم؟
قررت أن أذهب للباقية أواسيها في وفاة الراحلة..
في المسجد الكثير والكثير ممن جاء نعرفهم ولا نعرفهم، اللحظات قاسية والكل متلهف للنظرة الأخيرة بعد إجراءات الغسيل والتكفين، بعد صلاة العصر أعلن الإمام: المتوفى رجلان وطفلان وثلاث نساء، نعرف المرأة الأولى ندعو لها خاصة وللأموات عامة، لم نرفض قضاء الله تعالى ولكننا لا نعرف حياتنا بدونها، ماما فطيمة منذ 35 سنة أعرفها، أعرف يوم الأربعاء، أعرف حي الفاروق، أعرف الفيحاء والاستراحة التي لا تتنفس إلا بحضور ماما فطيمة معظم أوقات السنة.
عادت بي الذاكرة عند لحظات الدفن والوداع وفي أيام العزاء الحزينة إلى طفولة عذبة كنت أتلهف فيها للكبر والنجاح لأبشر آبائي وأمهاتي بالنجاح، الآن، وأنا قد نجحت، أتمنى أن أعود طفلا خاليا من النجاح ويبقى الأحبة لم يشيخوا أو يغادروا الحياة.
في حي الفاروق نبت الحب العميق لماما فطيمة، في ذلك البيت الجميل كما يقول ابن خالتي، الباب الخارجي المنخفض، الليوان المرتفع بجوار الباب، تلك الأرض الممنوحة للنخيل، البيت الذي يعلن عمق الرابطة مع الأخ بباب خلفي يسمح بالاتصال المباشر ببيت عمي يوسف، هنا ولد حب متعمق وألفة تدرّس للأجيال، كنا أطفالا نشتاق ليوم الأربعاء لندخل إلى هذا الحي المتقد بالحياة، هنا كانت ماما فطيمة محركاً للعلاقات الاجتماعية والروابط المتصلة، كل نساء الحي يعرفنها، تسرع في تلبية طلب المساعدة عند الولادة أو في مناسبات الفرح أو الحزن، تقول إحداهن وهي تكفكف دموعها حين حان الوداع وترك الحي الجميل حي الفاروق: أم الحامد ستنتقل..
أتذكر، أنا الطفل المبكر من أحفاد ماما فطيمة، كيف كنا نجلس حولها لتقص قصة جميلة تتكرر على أسماعنا تلك الأحيان كثيراً، وتتكرر اليوم بطعم الدموع، يلح خالي أن تقص ماما فطيمة قصة (الصفارة تحيي الميت) وهي تريد أن تستثمر كل لحظة مع بنياتها اللاتي آذن وقت زيارتهن بالانتهاء، توافق فتقص لنا القصة الجميلة، نام خالي في مفتتح القصة، بقينا نستمع ونتلذذ، حتى انتهت قصة، نتمنى الآن أنها حقيقة فنمتلك تلك الصفارة ونحيي ماما فطيمة الآن بعد أن ماتت..
أتذكر بعد ذلك بسنوات حين كنت في الصف الثاني ثانوية، وفي لحظة نادرة المثال، وافق والدي أن أقود السيارة في شوارع الرياض، ركضت أبحث عمن أبلغه هذا الإنجاز، انطلقت من حي الملك فيصل حتى توقفت في حي الفاروق، لم يكن عقلي يقودني تلك اللحظات بل قلبي، أردت أن أقول لماما فطيمة كبرت يا ماما وأصبحت أصل إليك كلما برح بي الشوق وأردت شاطئك الآمن..
ماما فطيمة كانت نقطة ارتكاز ليوم الأربعاء، كان هذا اليوم يتعطل أو يضعف حين تسافر في رحلة إيمانية، نعلم بهذا حين يمضي جزء من شهر رمضان، نحضر يوم الأربعاء فنجد سيارة السفر (جمس 85) داخل الفناء فنعلم أن الوداع المؤقت قد حان، جاء وقت عمرة رمضان، ومعها أيام نصف الشهر الكريم في مكة المكرمة، وتلك قصة أخرى لم أعقلها، تبث فيها ماما فطيمة حياة وألفة في جنبات حي الشامية العريق، فتنبت الصداقات والمعارف وتقترب ماما فطيمة من مجتمع جديد تكوّن فيه الحب والتآلف، أخبرتني أمي أن من تلك النسوة الطاهرات زوجة إمام الحرم الراحل الشيخ محمد السبيل، أقول كانت تلك اللحظات حزينة لنا نحن الأطفال، ماما فطيمة ستسافر ويوم الأربعاء لن يكون جميلاً بدونك يا ماما.
صحوت من تلك اللحظات لأجد نفسي في حي الفيحاء أتلقى العزاء في ماما فطيمة، أين حي الفاروق، أين حي الشامية، هل حقا أن يوم الأربعاء- الخميس الرمضاني القديم قد عاد لترحل ماما فطيمة لا إلى العمرة بل لرب العمرة في السماء..
حي الفاروق، حي الشامية، يوم الأربعاء، والأهم، ماما فطيمة أمست تحت التراب في 5-9-1440هـ.
لقطة
أختم بهذا السجال الذي كان بيني وبين أستاذ قديم، فقد كتب وهو يتأمل بيتا قديما يذكره بالطفولة:
أمر على الديار ولست أدري
أتذكرني؟ أتعرفني الديارُ
وكم قبّلت جدراناً وباباً
فلا باب يحنُّ ولا جدارُ
جمادات وأدري غير أني
أتوق لأهلها والشوق نارُ
فأجبته متذكرا بيت الفاروق الجميل:
أجباتك الديار حنين قلبٍ
تؤكد شوقها في الركن نارُ
تقول الحبائب قد أناخوا
هنا ثم انثوا عُجلى فطاروا
ألا يا صائحا فينا رويدا
بكينا بُعدَكم قومي الخيارُ
** **
د. وائل بن يوسف العريني - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية