يا بحرُ جئتُ ونارُ البَوحِ تَندلعُ
عَوَّدتَني حينَ أشكو الوَجدَ تَستمعُ
أدري بشجوِكَ.. كم ناجاكَ منكسرٌ
وكم شكا لكَ مقهورٌ ومنفجعُ
من غابرِ الدهرِ تأسو صَدْعَ أضلعِنا
حتى تكادَ لما تلقاهُ تنصدعُ
أنتَ الوفيُّ فبَرِّحْ واحتمِلْ شجني
لي فيكَ رغمَ زحامِ الشجوِ مُتَّسَعُ
حاشاكَ ما كنتَ غداراً كما زعموا
وأنتَ مِن أدمُعِ العشاقِ مُجْتَمِعُ
ظَنوا اضطرابَكَ عصياناً ولو شعروا
لأدركوا فيه نبضاً كلُّهُ وَجَعُ
ورَجَّمُوا فيكَ سِرَّ الفيضِ يَغمرُهُمْ
ولو رأوا حولَكَ الباكينَ لاقتنعوا
كم زفرةٍ زَلزلَتْ أثباجَكَ انطَلقَتْ
من قاعِها موجةً هوجاءَ تندفعُ
وكم شكايةِ مغدورٍ بكَ امتَزجَتْ
فمُجْتَ عاصفةً تُرغي وتَبتلعُ
ما ثُرْتَ يا بحرُ إلا مِن مواجعِ مَن
بَثُّوكَ صدقَهُمُ في الحبِّ وانخدعوا
أشكو إليكَ نديمي مَن ظمئتُ لهمْ
ومُنتهَى غايتي في وِرْدِهِمْ جُرَعُ
همُ الذينَ أباحوا لي مواردَهُمْ
حتى إذا ظَمِئتْ رُوحي لَهُمْ مَنَعوا
قد أسهروني أُناجي طيفَ غابرِهِمْ
وهمْ على حاضرِ النسيانِ قد هَجعوا
أشكو إليكَ الأُلَى باعوا مودتَهُمْ
وأرخصوا مهجةً في فَيئها رَتعوا
باعوا، وما كنتُ آسَى يومَ بيعِهِمُ
لو أنهمْ حينَ سِيْمُوا قيمتي رَفعوا
لم آتِ ذنباً سوَى أني انفرطتُ هوىً
في جُنحِ ليلٍ ووجهُ البدرِ مُلتفِعُ
ألقَى علينا الدُّجَى ضافي عباءتِهِ
وغرَّنا منه طرفٌ غامزٌ لُكَعُ
يُوحي لرائيهِ أن الوصلَ مُغتَفَرٌ
وأن جُرْمَ الدُّجَى في الفجرِ يَنقشعُ
وليسَ من عاذلٍ تُخشَى ملامتُهُ
ولا نمومَ على الأسرارِ يَطَّلعُ
كم طمئنَتْنا لِجَنْيِ الوصلِ نظرتُهُ
مذ لَوَّحَتْ بسناها الخافتِ المُتَعُ
فلم نزَلْ منه في فوضَى تَردُّدِنا
ونحنُ لا جرأةٌ فينا ولا وَرَعُ
لكنَّ هدأةَ إيماءاتِنا نَطَقَتْ
فنبهَتْنا لما كِدنا بهِ نقعُ
طردتُ من خاطري وَسواسَ مُرخِصِنا
وعدتُ أرتادُ في بوحي وأنتجعُ
ما كدتُ أقطعُ عقدَ البوحِ لَحظَتَها
إلا وعقدُ نجومِ الأفْقِ منقطِعُ
فرحتُ أسمو بعاتي ما أكابدُهُ
من الصبابةِ لا أُبقي ولا أَدَعُ
أبديتُ من لوعتي ما كنتُ أضمرُهُ
وقلتُ ما لم يقلْهُ في الهوى وَلِعُ
حيناً أزخرفُ آهاتي بقافيةٍ
تُنسي مجانينَ ليلى كل ما ابتَدعوا
وتارةً أبعثُ الأشجانَ أغنيَةً
تُعيدُ في أضلعِ القاسينَ ما نُزِعوا
وكنتُ في هَزَّةِ الوجدانِ منتفضاً
ينتابني من مهاباتِ الشجا فَزَعُ
يدِي مبللَّةٌ بالرشْحِ راعشةٌ
وفي فمي جُمَلُ الأشواقِ تَصطرعُ
وبعضُ أزرارِ ثوبي غيرُ مُحْكَمَةٍ
وما أُواري به فَوْدَيَّ مُنخلعُ
وبينما كنتُ في نجوايَ مُنهمكاً
والصبحُ تَدْهَمُنا من جيشِه دُفَعُ
إذ لاحَ بينَ دياجي لِمَّتِي شَبَحٌ
جَبينُهُ ببياضِ العمْرِ مُمْتَقِعُ
لم يَدْرِ كيفَ يُداري نَحْسَ طَالَعِهِ
حتى انحنَى فهْوَ يَخفَى ثم يَلتمعُ
فسَوَّدَ الصمتُ إشراقي، وأسفرَ لي
من الفراقِ مُحَيّا كالِحٌ بَشِعُ
سُرعانَ ما اصطنعَ التوديعُ حرقتَهُ
وكانَ أيضاً لزيفِ الوعدِ يَصطنعُ
والآنَ يا بحرُ مرتْ بالمنَى سنةٌ
ولم أزَلْ بجميلِ الصبرِ أَدَّرِعُ
تَمضي الليالي أُمَنِّي عَوْدَ ناصِعِها
وذلكَ الشبَحُ استَشْرَى به الطمَعُ
ما عادَ يَرضى بإيحاشاتِ وَحدتِهِ
وكلَّ يومٍ له من نَسْلِه تَبَعُ
فقل بحدسِكَ هل وصلٌ أؤملُهُ؟
أم أكتفي بجنَى الذكرى التي زَرعوا؟
** **
- فواز بن عبدالعزيز اللعبون