القادم لأي مدينة عربية سيلاحظ بشكل واضح أن المنشآت العامة من شوارع ومعالم ومدارس وغيرها يغلب على تسمياتها وبشكل كبير جدًا الأسماء المستمدة من التاريخ وليس من الحاضر. بالشكل الذي يؤكد بطريقة أو أخرى -كما العديد من المؤشرات الأخرى- بأن مجتمعاتنا العربية ترتكز على ماضيها أكثر من حاضرها.
الارتكاز على الماضي والانطلاق من خلاله لا يمثّل عيبًا حينما يكون في حدود المحفّز للحاضر لا عائقًا أمامه. فكل المجتمعات البشرية تبني مستقبلها من خلال جذور ماضيها واستحضار ما يناسبها من هذا الماضي بالحد الذي يكفي لاستمرار الهوية والشخصية الثقافية ويحافظ عليها.
ولو أخذنا المجتمع العربي المصري أو العراقي كمثال حي للعيش بأوهام الماضي الذي نعيشه جميعًا كعرب وبصيغ محلية مختلفة، فلا أحد يساوره شك بأن لهذه المجتمعات قيمة تاريخية وحضارية عظيمة لا يمكن مقارنتها بأي من قريناتها في الشرق وفي العالم، لكن الواقع المعاصر لها لا يعكس ذلك. فالظروف المعيشية التي مرت بها هذه المجتمعات خلال العقود الأخيرة سحقت هذا البعد الكبير وحولتها لدول شبه متخلفة بشعب يعيش في صراع من أجل لقمة العيش بدلاً من صناعة الحضارة.
ولا شك مطلقًا بأن للأرث الحضاري لأي مجتمع قيمة مهمة في تأصيل الجينة الحضارية لدى أفراد هذا المجتمع التي لا تلبث أن تشتعل متى ما وجدت المعطيات المعيشية التي تسهم في تحريكها، إلا أنه وبرأيي الشخصي يظل هذا الشعور المطلق لدى أفراد هذه المجتمعات الذين يرون من خلاله بأنهم لا يزالون منارة حضارية وثقافية وعلمية في الشرق يسهم في خلق شعور وهمي لهم بالرضا والاعتزاز بالذات بالشكل الذي يؤخر الرغبة والدافع لديهم بالتغيير واستعادة ما فقدوه من قيمة ومواكبة ركب الحضارة الذي يتقدم بسرعة عالية قد لا يستطيعون اللاحق به إن استمروا لفترة طويلة بهذه الحال.
ما ينطبق على المجتمع العربي المصري والعراقي ينطبق على بقية مجتمعاتنا العربية وإن تغيرت مظاهر العيش في الماضي ورفض الحاضر خوفًا منه وليس عدم رغبة فيه. والمجتمعات العربية التي لم ترتكز في عيشها بالماضي على البعد الحضاري كما في الحالة المصرية والعراقية وبعض بلاد الشام فإنها ارتكزت على الجانب الديني الماضوي وعلى الجانب الأخلاقي المجتمعي المتخيّل في الحاضر استنادًا على الماضي. فصورت لنفسها بأنها مجتمعات فاضلة وأنها الأكمل والأمثل أخلاقيًا واجتماعيًا مقارنة ببقية المجتمعات. في حين أن مؤشرات الفساد العام وغياب العدالة المجتمعية تؤكد عكس ذلك تمامًا. مع ذلك فإن التغييب اللا واعي للعقل الجمعي ينكر ذلك مما يزيده تعلقًا بالماضي ونبذًا للحاضر بكل مؤشراته المحبطة.
الحاضر هو الحاضر، والماضي سيبقى تاريخيًا مرويًا لن يسهم التعلّق فيه بهذا الشكل المَرضي سواء في مداعبة الخيال وترطيب العاطفة بالشكل الذي يخدرنا كشعوب بدلاً من أن يدفعنا للمضي قدمًا في الحضارة واسترداد قيمتنا وريادتنا بدلاً من الاكتفاء في إعادة تدويرها كأحلام يقظة مجرّدة لا قيمة ملموسة لها.
** **
- تركي رويّع