في ضمير كل منا بؤرة توجيه، تردعنا عن ارتكاب «الخطأ»، وتأمرنا بالتزام الصواب، أطلق عليها عالِم النفس فرويد اسم (الأنا العليا) .. وقد يكون من الأصوب؛ من وجهة نظري؛ ترجمة التسمية إلى (الذات العليا) وليس (الأنا)، التي تحمل في طياتها من (الأنانية) ما ينفي صفتها الرقابية على السلوك.
لقد وُلِدَتْ وتَرعرعتْ «الذات العليا» في داخلنا منذ نعومة أظفارنا، وقبل أن نحاكي اللغة، حيث تعلمنا ما هو خطر؛ وما هو ممكن؛ وما هو غير ممكن؛ وما هو «عيب» ...إلخ. وتخضع تلك «الذات»؛ طيلة العمر؛ للتهذيب والتشذيب والتأنيب والعنف أحياناً، من جانب العرف السائد؛ والتربية في العائلة الصغرى والكبرى؛ وتأثير المعارف والأصدقاء والشارع والمدرسة والإعلام والتجربة.
«الذات العليا» يمكنها أن «تقولب» الفرد منا، ليصبح سائرا على «سكة حديدية» كالقطار؛ لا يحيد ولا يميد؛ ولا يقبل المساس بقالبه الفولاذي، حتى صَرَخت بنا «أمنا شهرزاد»؛ استكمالاً لصرخة «أمنا حواء»؛ صرخة امتدت «ألف ليلة وليلة» لتقول: إن الجوهر هو تغيير المجتمع والإنسان، وليس الاستكانة (للأنماط المثالية في المجتمع؛ ولا الأحكام السلفية في الدين؛ ولا المسلمات الأخلاقية؛ ولا قضايا الفن والعلم الجاهزة) (د. هاني حجاج؛ مجلة أدب ونقد؛ العدد 375 يناير 2019 ص88).
التجربة الفردية يفوق تأثيرها في «الذات» على تأثير العائلة والمجتمع، ولكنها لا تفك أغلالك، إلا إذا تحررت -كما نادت شهرزاد- من أسمال الأعراف الاجتماعية البالية، وأعدت إنتاج القيم الأخلاقية والقانونية للاستمرار في التغيير والازدهار.
قد تدعوك نفسك لرفض كل القيم جملة واحدة، ولكنك في هذه الحالة لن تتحرر، بل تزيد أغلالك ضياعاً!... فما الفائدة من أن تخدع أخيك أو تطعنه في الظهر أو تسرقه أو تقتله، ثم تذهب لتصلي في الجامع خلف الإمام؟. التخلص من الأغلال لا يتم برفض القيم الأخلاقية كلها، إنما بغربلتها وإعادة إنتاجها فردياً وجماعياً خدمةً للتقدم.
المبادئ والقيم الأخلاقية هي الناظم الأول والأخير لعلاقتك بالآخر، فالعلاقات الاجتماعية لا تُبنى بالقوانين مهما كانت صارمة.
حدثني صديق وأنا أكتب هذه السطور، وبالرغم من بعد المسافة بيني وبينه؛ وأننا لم نلتقِ من سنين، شعرت وكأن الزمن لم يستطع تفريقنا قط!، وأننا نعيش نفس «الهواجس»، ونشعر أن كل منا عضيد للآخر، فهل الصداقة قيمة أخلاقية أم قانونية؟.
** **
- د. عادل العلي