عصر النهضة والتنوير نقل أوروبا والبشرية كلها من التفكير التأملي المجرد؛ إلى التفكير الواقعي المرتبط بالحركة والتجربة. وأهم ما أسس له في علم الاجتماع هو ثنائية المفاهيم؛ لأنها منبثقة من الصراع الاجتماعي.
القومية كتوجه فكري تخضع لتلك المعادلة الثنائية؛ مثلها مثل المفاهيم الأخرى المرتبطة بالصراع بين الظالم والمظلوم. فالظالم يسوّق مفهوم القومية لتكريس الظلم الاجتماعي والقومي، والمظلوم ينادي به لرفع الظلم. أي أن «المفهوم» ليس مطلقاً وليس ثابتاً، ويخضع لموازين القوى في المجتمع ودرجة تطور الصراع فيه. وكما هو الحال؛ الغلبة تكون في صالح المفهوم الاستغلالي التسلطي؛ حيث يتحكم الظالم بالثروة والسلطة والإعلام والوعي.
يقول «كي لانكون – الشرارة 2001 – جماعة تحرير العمل – تحت عنوان – القومية اختراع حديث»: - (يعود جانب هام من جوانب فكرة القومية إلى الاعتقاد الخاطئ السائد بأنها معطى طالما كان موجوداً في تاريخ البشر – إن لم يكن في دمائهم وأرواحهم. غير أن الحقيقة خلاف ذلك. فالأكيد أن القومية هي اختراع حديث لم يكن له أثر خلال مئات قليلة من الأعوام. قبل هذا، لم يكن هناك سوى القبائل والإمبراطوريات وما يطلق عليه الدول – المدن، وهذه كلها أشكال للتنظيم الاجتماعي أو للسلطة تختلف جذرياً عن الدول القومية كما نعرفها في العصر الحديث.
الدول ما قبل القومية- مثلها كمثل الدول القومية- تقوم بأدوار القمع الطبقي، وتستخدم الأجهزة المسلحة لضمان استغلال الطبقات الكادحة، وبعضها قائم على أساس الدين. ولكن ما يميزها عن الدول القومية الحديثة هو أن الأخيرة استخدمت فكرة القومية، لإنشاء دول تقوم على فكرة المواطنة مع الإيهام بوحدة الجذر العرقي والتاريخي للأمة. هدف هذه الدول هو توحيد السوق وتركيز أدوات القمع كإطار لاستكمال سيطرة الرأسمالية الاقتصادية والسياسية).
لقد فضح «كي لانكون» في هذا البحث؛ الأساس الاقتصادي-السياسي لنشوء النزعة القومية التسلطية، والهدف من إيغالها في النفوس. الحملة التي قادها الرأسمال تحت عنوان «الخطر على التقدم» في القرن التاسع عشر والعشرين، والتي كانت تهدف لإجهاض مفهوم القومية الإيجابي المنافي للاضطهاد، تحولت إلى «مكارثية وشوفينية وفاشية» فيما بعد؛ باسم القومية؛ لمحاربة التوجه اليساري في العالم أجمع.
** **
- د. عادل العلي