بثت القناة الأولى السعودية يوم الأحد عبر البرنامج الاجتماعي «تم» حلقة مهمة عن الكراسي البحثية، وكنت أحد ضيوف البرنامج متشرفًا بالقناة وبالبرنامج وبطاقم العمل وبالمشاهدين الأعزاء؛ ولأن الموضوع جدير بأن تُعقد له الملتقيات والمؤتمرات وورش العمل، فالمساحة الزمنية المتمثلة بأجزاء من الساعة لا توفر إمكانية الحديث الوافي والتوصيف الشافي والحكم الكافي على تجربتنا في الكراسي البحثية سواء الداخلية التي تكون تحت إشراف جامعاتنا أو الكراسي البحثية التي تمولها المملكة العربية السعودية في جامعات خارج الوطن في دول شقيقة أو صديقة، وهنا أشير ابتداءً إلى أهمية رعاية البحث العلمي أولا والتأكيد على جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية الحكومية منها والخاصة أن تولي هذا الأمر أكبر اهتماماتها، فأرقى الجامعات وأكبر الدول المتقدمة لم تبلغ ما بلغت من السيادة والريادة إلا بإنجازات بحثية متميزة رائدة إن على المستوى النظري أو على المستوى العلمي التطبيقي، فعلى البحث تعويل كبير في الحركة التنموية لأي بلد متطور ينشد التقدم والرقي، والبحث إحدى أهم وسائل التطور المعرفي للعلوم المختلفة.
ولدى بلادنا المملكة العربية السعودية كل الإمكانات اللازمة والظروف المناسبة والطاقات البشرية ذات الكفاءة لتحقيق الصدارة في النتائج البحثية المتقدّمة النافعة للبشرية جمعاء، ولكن بشروط تضمن التنظيم النموذجي والتنفيذ العملي الخاضع للإشراف والمراقبة والمتابعة والدعم والتطوير والرعاية؛ لضبط الإنفاق ورعاية المخرجات المتميزة ونشرها وتنفيذها باعتبارها منتجًا وطنيًا قابلاً للتطبيق والتطوير.
والكراسي البحثيَّة هي أحد أهم عوامل دعم البحث العلمي فيما يخدم المجتمع ويقع في دائرة اهتمامه ويجعله مجتمعًا حيويًا كما تنشد البلدان المتحضرة، وكما ترسمه رؤية 2030 التي تضمَّنت إشارات مهمة في هذا الجانب، ومنها أن يسهم القطاع الخاص في النواتج المحلية، وتلتقي الجهود الحكومية والأهلية في دعم الحركة العلمية والنشاط المعرفي في البلاد لتنهض الحياة الاجتماعية بالفرد والجماعات فيصبح مجتمعنا مجتمعًا حيويًا نشطًا منتجًا.
وليس خافيًا أن بلادنا تزخر من جهة بالطاقات الشبابية المبدعة والكفاءات العالية المهتمة بالأبحاث العلمية، ومن جهة أخرى بالشركات القوية والمؤسسات الخاصة المرموقة والأفراد الداعمين الذين يريدون تسجيل أسمائهم ضمن المساهمين في خدمة وطنهم، وإبراز جهدهم ودورهم في البناء، ودعم مسارات اهتماماتهم الشخصية أو الوظيفية عبر تمويل كرسي من كراسي البحث التي يعود نفعها على الإنسان سواء في المجتمع السعودي أو المجتمعات الأخرى، ولكن يبقى السؤال الأكبر: هل آتت الكراسي البحثية الحالية ثمارها؟ وما المأمول لتؤدي المطلوب منها على أكمل وجه؟
إن الكراسي البحثية فكرة رائدة، وهي قابلة للتطبيق بتميُّز في بيئاتنا الأكاديمية إذا استلهمت التجارب الناجحة للسابقين في الدول المتقدّمة وبنت عليها، وأخذت ما يتلاءم مع حاجات مجتمعنا؛ لاعتبار أن الكراسي البحثية هي عبارة عن شراكة بين المموّل والجهة الأكاديمية يعود نفعها - في المقام الأول - على المجتمع الذي يحتضن هذه المؤسسة العلميَّة؛ لذا يجد الناس حاجاتهم في مسار أو أكثر من المسارات التي تلامس حياتهم بشكل مباشر، كالإسكان مثلاً، أو الشؤون الاقتصادية، أو حماية الفكر، أو المحافظة على المكتسبات الوطنية، أو الإنجازات الطبية، أو الحلول المتعلقة بالبيئة، أو هندسة المدن، أو الرؤى الاجتماعية الكافلة للتنمية والرعاية الاجتماعية للعاطلين والعاجزين عن العمل، وغير ذلك مما تجد فيها كراسي البحث إمكان تقديم الخدمات البحثية النافعة للمجتمع وأفراده.
وإنني في هذا الصدد أضم صوتي إلى صوت الداعين إلى إنشاء جهة مركزيَّة تشرف على البحث العلمي في بلادنا، من مثل هيئة أو مركز أو وكالة ونحو ذلك، ويكون التكليف عليه من ذوي الطاقات البحثية الإدارية المتميزة لتكون مخرجات الأبحاث العلمية ومنها ما يصدر عن الكراسي البحثية ذات أثر محسوس وصدى ملموس في الداخل والخارج، ولضمان صرف الموارد المالية للكراسي البحثية في قنواتها المطلوبة. وليس تنفيذ هذا المقترح أمرًا متعذرًا في ظل ما تشهده بلادنا من حركة تطوير ونماء ورؤية طموحة وشفافية عالية ومحاربة للفساد لا تستثني أحدًا في ظل قيادتنا الرشيدة وفقها الله. والأمل معقود في المسؤولين الكرام المعنيين بالبحث العلمي وفي مقدمتهم معالي وزير التعليم الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ أعانه الله؛ وذلك لأن عمادات البحث العلمي وكراسي البحث والأقسام العلمية والمراكز البحثية والمعاهد المتخصصة جزء مهم لا يتجزأ من منظومات جامعاتنا العديدة المتنوّعة التي تضم نخبة من الباحثين والخبراء والأساتذة المميزين. دامت بلادنا شامخة.
** **
د. محمَّد بن أحمد الخضير - أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود
maakdir@gmail.com