بقدر ما تمثل الجدية شرطاً مهمّاً للنجاح، وأداة لا غنى عنها للإنجاز؛ إلا أن سنة الله في الحياة أن النفوس تكل وتمل، والمفْرِطون في الجد، يضعف إنتاجهم وأداؤهم، كما أن طابع الجدية الدائمة يصقل أنفسهم بقدر من القسوة، تبدو في صرامة اختياراتهم، وتنعكس على أخاديد وجوههم العابسة.
وإذا كان فرط الجدية يفضي للبؤس وحياة الشقاء، فإن القدر المتزن من الفرح والابتهاج يقود للنشوة والانبساط، حتى تغدو الحياة بأكملها جنة في الأرض.
لقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس أثراً في التاريخ، وأصدقهم في حمل الرسالة، ومع ذلك الجهد المضني، الذي كان يقوم به كان يجد (صلى الله عليه وسلم) وقتاً للمتعة، والمرح، فقد تساءل أصحابه -رضوان الله عليهم- عن مداعبته لهم كما جاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا.. قال: «إني لا أقول إلا حقّاً».
وكذلك كان النخبة من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء عن عمر -رضي الله عنه- «... لأقولن شيئاً يُضحك رسول الله»؛ وقد علق عليه ابن حجر: فيه استحباب من رأى صاحبه مهموماً أن يحدثه بما يزيل همه ويطيب خاطره.
إن المبتهج يتفرد بطاقات هائلة، ومهارات فريدة، تمكنه من الانفتاح الإيجابي لتلقي الأخبار السارة، واقتناص الفرص الثمينة، واغتنام الخيارات، التي تشبهه في نبض طاقته الإيجابية الصاعدة. إذ اللافت للانتباه أن المبتهجين أسبق من غيرهم للفوز بالخيارات الثمينة، كترقية، زواج، تفوق علمي، صفقة مالية؛ ربما يعود تفسير ذلك لمحافظتهم على مستوى شعوري رفيع، وقدر وفير من المتعة الحاضرة، وهذا بدوره لا يقوى فريقان على بلوغه : هما أصحاب الدماغ القلق، ومدمني مشاعر التأنيب والتعاسة.
المبتهج يسير منسجماً مع حركة الكون؛ فكل ما في الكون خُلق جميلاً، والمتعة والبهجة رديفة الجمال وحركته الظاهرة. وفي حين أننا نلحظ أن من لا يمنح بدنه المجهد، ونفسه الكالة، فرصة كافية للترويح والتسلية، قد أخل بانتظام موازين قواه، فلا يلبث أن يسقط على أثر وعكة صحية، ويرقد بالفراش أياماً. إلا أن المبتهج يتمتع بمناعة جسدية قوية، تقف سداً في وجه الأمراض البدنية، والنفسية، وهو يزاول كافة أنشطته بانسيابية ملحوظة، وقد أثبتت الأبحاث والدراسات الطبية التأثير العلاجي للضحك سواء في سرعة تدفق الدم إلى القلب، وتغذية الرئتين، أو في تنظم ضغط الدم، كما أنه يساعد في إفراز هرمون «الدوبامين» المسؤول عن الشعور بالنشوة، والتخفيف من الضغط العصبي... ( يمكنك البحث بنفسك عبر قوقل).
وثمة أشياء نفعلها تحت ضغط المسؤولية، أفقدتنا روح الاستمتاع: كالذهاب للعمل الممل، وإعداد وجبات الطعام، وتنظيف البيت، وإطعام الصغير، وواجب زيارة الأقارب.. فطابع الروتين الثقيل، قد يحول بيننا، وبين القدرة على إضفاء نكهة المتعة إليها، إلا أن ذلك متاح وممكن لمن كانت البهجة له طابعاً، ونمط حياة؛ وذلك بممارسة الحضور الواعي، مع إعلان الاستعداد اليومي لاستقبال الخير القريب، إلى أن تنصبغ الواجبات الروتينية بطابع المتعة، وحيوية اللحظة.
إ ن البهجة والاستمتاع، لا يبدوان ذوي أولوية، لدى عدد كبير من الناس؛ للوهم بأنهما يتعارضان مع سيما التدين والجدية ويقللان من سحر الغموض وقوة الحضور، ولكن فضلاً عن الشواهد من السيرة النبوية المشار إليها سلفاً فإن الواقع يشي بعدم دقة ذلك الفهم؛ إذ البهجة، والفرح، لا غنى عنها في تحقيق التوازن في الشخصية، والأداء معاً.
وبين الإيمان والابتهاج علاقة طردية؛ فهو يضاعف ذلك النوع من الإيمان الحي المتقد ويقويه؛ باعتباره نمط حياة منشؤه التسليم والرضاء، ومحركه الشكر والامتنان، ودوامه بالثقة بتدبير من إليه يرجع الأمر كله.
مرحى لمبتهج سر استمتاعه، نابع من داخله، لا من الخارج، ينتبه للفرح العالق، ويحتفي بالجمال المخبوء، بين ثنايا التفاصيل الصغيرة للأشياء.
المبتهج دون غيره يتميز بعفوية ضحكته، وبساطة فرحه، ويمتلك قدرة نفيسة و-بلمح البصر- على ضخ قدراً هائلاً، من الطاقة الإيجابية المتمثلة في الحيوية، والتفاعل، والنشاط، في الأجواء المحيطة به مهما اسودت وتراكمت أبخرة التشاؤم والتعاسة فيها.
وعلى الرغم من العيش في مجتمعات تمجد البؤس والشقاء باسم الجدية والوقار، إلا أن المبتهج تنتشي القلوب وتتراقص طرباً لتواجده في المجالس؛ فهو يتفرد بمهارة سحرية مدهشة، تمكنه في لحظات من إعادة ضخ نبض الحياة للقلوب الكالة.