«الثقافية» - محمد المرزوقي:
دائماً ما يجمع رواد الثقافة والفكر وأرباب الكلمة الأدبية، والسرد «السيري» أن كتابة السيرة الذاتية من أشد أنواع الكتابة عصياناً، وأكثرها عنفواناً.. ذلك العنفوان الذي لا يمكن ترويض جماحه إلا بعد عسر المحاولات.. ومرات.. ومرات.. من التردد للإقدام على «كتابة الذات»، ما يجعل من كتابة السيرة الذاتية من (أشقى) المحاولات الكتابية، وأشد مسالك التدوين مسلكاً.. كل ذلك قد يهون أكثر عندما يدون السيرة غير صاحبها، ما يجعل من رواية الذات بعد عقود من الصعوبة بمكان، من ترويض الفكرة والإقدام على رصدها، ما يحعل من تلك العقود بمثابة إرث تراكم عبر السنين، التي تتحول إلى ما ينوء بالإرداة.. وقوى الكتابة أياً كان شكل سردها، لتظل الذات الكاتبة حيَّة على تلك السطور تتعاقب الأجيال على قراءتها جيل بعد جيل!
إن كتابة السيرة بمداد الوعي.. ومسرى عقود الحياة كما هي.. ومداد الأمانة.. وامتطاء صهوة المصداقية.. والموضوعية.. وحيادية المواقف.. واستلهام روح الوثوقية في كل عبارة.. واستحضارها عبر عتبات الليالي.. ومشارق الأيام.. من عام إلى آخر.. ومن عقد.. إلى ما يليه.. تعني أن يعيد الكاتب «بعث» حياته مرة أخرى وهو لا يزال حياً.. ليبقى ما استطاع حياً في ذاكرة الحياة.. ما جعل من عبد الله بن محمد الشهيل - رحمه الله - في سيرته التي دونها بيده بعنوان: «محطات عمر»، أحد أولئك الذين استوقفتهم كثيراً كتابة سيرهم بمداد أيامهم، على أسطر تبدوا لهم أحد من السيف.. وأذهب من السراب.. وأعمق من كل تفاصيل الوجود.. ليرسموا أنفسهم في مشاهد (حية) تتسلسل أحداثها، وتتابع أقدارها عبارة بعد أخرى، ومن مشهد إلى آخر في سرد تصبح الذات فيه (مسؤولة) عن كل تفاصيل الحياة بما رحبت!
إن من يقرأ سيرة الأديب والكاتب عبدالله الشهيل، سيجد فيها كل هذه الهموم، وستطالعه رؤية الشهيل ورأيه في ماهية السيرة وفي معانيها الدقيقة.. وجوهرها الذي ولاربد أن يلم به الكاتب حتى لا لا يعيد حياته فيما دون جسدا لا روح فيه، ولا حراك! ما جعل من السرد الحكائي والحرص على الموثوقية والغائية من (محطات عمر)، التي سردها في 622 صفحة من الحجم الكبير، تصف سيرته بجميع المراحل العمرية الطفولة والشباب.. والكهولة، إذ اشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام: قسم البدايات عن العائلة والولادة والنشأة والتعليم، فيما جاء القسم الثاني عن الدراسة في لبنان ومصر والعراق وإنجلترا، أما القسم الثالث يتصل بالمقابلات والاتصالات وبيان بعض المواقف والآراء التي أبداها المؤلف حول عديد من الموضوعات والمناشط المختلفة، إضافة إلى ما تضمنه الكتاب لمجموعة من الصور النادرة في عدد من المناسبات داخل المملكة وخارجها.. في محطات (تحكي) الشهيل، محطات متجاوزة الذات، إلى ذات (المكان)، وإلى ذاوت (الحياة)، إذ جمع بالوعي قرابة ستة عقود من حياته داخل المملكة وخارجها، ليجول معه القارئ في نزهة عربية تستقرئ التحولات من هنا وهناك، وكأن القارئ في تجوال وتطواف مستمر للكثير من التفاصيل التي أراد لها الشهيل الحياة.. التي أدرك أنها ما يهم القارئ، وبأنها ما يستحق الرواية، وما يستحق أيضا المصداقية والتوثيق والموضوعية والدقة والحياد!
يقول الشهيل عن تدوينه لمحطات عمره: «لا أظن بأن السير الذاتية - عموماً- مفيدة، وإن اختلفت غنى وأهمية، خاصة إذا التزمت الصدقية والصراحة وامتازت بالوضوح والرؤية الواعية وراعت المشاعر وما تحمله المتغيرات حتى تترك أثر توعويا سواء صيغت بعمل إبداعي روائي مثلاً أو بشكل مباشر أو جزئي كالمذكرات!»، هكذا يفترض الشهيل أن يبدأ الراوي بمساءلة نفسه، قبل أن يساءل سيرة حياته، وأن يعيد استنطاق مسيرة مشواره مع السنين، ما جعل الغائية الحقيقية من كتابة السيرة أول العقبات الحقيقة التي تستوقف الراوي كثيراً، قبل أن يشهر قلمه في صفحات الأيام المقبلة، بعد أن يرحل ويظل صوتاً في سيرة، وشاهد بعد رحيل!