أخو العلم حي خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراب رميم
في فجر يوم الأحد 12-2-1440هـ انتقل إلى رحمة الله فضيلة الشيخ إبراهيم بن حمد السلطان؛ إذ انتهت أيام حياته من الدنيا بعد حياة سعيدة حافلة بالعمل المشرف في السلك القضائي بكل جد وأمانة وإخلاص، وكانت ولادته في بلد آبائه (ملهم)، بلد العلماء والكرماء، الموغلة في القدم منذ العصر الجاهلي، وقد تطرق لذكرها امرؤ القيس في بعض قصائده. وعند بلوغه السابعة من عمره أخذت أسرته تلقنه وتشجعه على حفظ قصار السور، وتلاوة الآيات الكريمة تمهيدًا وتهيئة له لمسايرة زملائه وأقرانه بالدراسة في المرحلة الابتدائية؛ وهو ما كان سبباً مباركاً في حسن سيره في جميع مراحله الدراسية بتفوق حتى نال الدرجة العالية بكل قوة وراحة بال.
وقل من جد في أمر يحاوله
واستصحب الصبر إلاّ فاز بالظفر
فاختياره النهل من حياض موارد كلية الشريعة العذبة بمدينة الرياض، وحصوله على درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء، أهَّلاه إلى أن يكون في مصاف كبار العلماء الأجلاء؛ وتسنم المناصب المشرفة العالية منذ بداية عمله حتى أخلد للراحة متقاعداً - رحمه الله رحمة واسعة -.
وفي بداية عمله الوظيفي حاز ثقة الدولة في عهد جلالة الملك فيصل - رحمه الله رحمة واسعة - حينما أمر بإيفاد عدد من القضاة إلى دولة الإمارات بمنطقة الخليج، منهم فضيلته الذي تم إيفاده للقضاء بإمارة الشارقة معززاً ومكرماً؛ لما يتمتع به من حنكة ومرونة، وسعة أفق ودراية في الأحكام الشرعية؛ وهو ما جعل حاكم الشارقة يتمسك به وبإقامته لديهم أعواماً مديدة، كما يسعد بالاجتماع به في كثير من المناسبات، وفي الإجازات الأسبوعية؛ لما يجري فيها من أحاديث شيقة، وآداب تؤنس الحضور مُطَعّمة بكثير من الطرائف والشواهد الشعرية جزلة المعاني.
لم يبق شيء من الدنيا تُسر به
إلا الدفاتر فيها الشعرُ والسمر
فولاة أمر بلادنا - أعزهم الله بطاعته - يحرصون على مشاركة أي بلد من البلاد مهما تباعدت آفاقه وأرجاؤه. أذكر جيدًا أن وزارة التعليم تبعث عددًا كبيرًا من خيرة المعلمين إلى دولة الجزائر, وإلى بعض بلدان إفريقيا وغيرها من البلدان تعاونًا ونشرًا للثقافات العامة المفيدة، وتبصيراً للعامة بأمور دينهم. ولا يزال الإيفاد لتلك الدول مستمرًّا. وبعد تلك الرحلة الطويلة المباركة التي قضاها فضيلته في ربوع الشارقة فقد حظي بثقة مجلس القضاء الأعلى بتعيينه مساعداً لرئيس محاكم الطائف، ثم رئيساً للمحاكم الشرعية بها عدداً من السنين.. وكان محبوباً لدى أعضاء المحكمة والمواطنين، وكثيراً ما يُنهي قضايا الخصوم بالصلح برضا الطرفين.. ومما زاد من إسعاد فضيلته أن تم نقله إلى مدينة الطائف الواقعة على مقربة من بيت الله الحرام بمكة المكرمة.. كما سعد بوجود صديقَيه القاضيَين الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الوشيقري والشيخ عبدالله بن محمد اليحيى، وغيرهما من معارفه.. وكانوا يقضون جُلّ أوقات فراغهم في تبادل الأحاديث الودية، وقد يمتد إلى النقاش في بعض المسائل الفقهية والقضائية أحياناً. في هاتيك الأجواء اللطيفة التي وصفها الشاعر العربي بنسائمها العليلة، وبجمال روابيها المكسوة بالخضرة، والأشجار وارفة الظلال حيث قال:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
ولا ينسى فضيلته المرور على المكتبتين العريقتين: مكتبة المعارف لصاحبها حبيبنا الأستاذ محمد سعيد كمال، ومكتبة الشيخ سعيد المؤيد الواقعة بمحلة الشرقية هناك، فيخرج منهما بكمية من نفائس الكتب ونوادرها رغم ارتفاع أسعارها، فيضمها إلى مكتبته الضخمة الخاصة التي تحتضن آلاف الكتب المنتقاة.
كما أنه على جانب كبير من التواضع والخلق الكريم؛ فبابه مفتوحٌ لمن يؤمه من المصطافين من معارفه وأقاربه؛ فيقوم بإيناسهم وإكرامهم. بعد ذلك انتقل إلى مدينة الرياض على درجة قاضي تمييز، حتى تقاعد حميدة أيامه ولياليه. ولنا معه ومع إخوته الراحلين الكرام (عبدالله والأستاذ عبدالعزيز والشيخ حسن)، ومع الأستاذ عبدالرحمن - متعه الله بالصحة التامة -، أجمل الذكريات، وقد سبق أن غمروني بإكرامهم لي أيام الدراسة بالمعهد العلمي وكلية اللغة بالرياض. وعندما شعر - رحمه الله - بدنو أجله أخذ يفكِّر متحسّراً على مصير مكتبته من بعده التي تنوء أرففها بأحمال نفائس الكتب ونوادر مخطوطاتها، ومن سيخلفه عليها مردداً في خاطره هذين البيتين:
أُقلب كُتباً طالما قد جمعتها
وأفنيت فيها العينَ والعينَ واليدا
وأعلم حقاً أنني لستُ باقياً
فيا ليت شعري من يُقلبها غدا
ثم أغمض عينيه وبداخله ما به من لوعات الفراق الأبدي. ولئن غاب عنا أبو محمد فإن ذكره الطيب سيظل طرياً باقياً بين جوانحي مدى الأيام.
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته، وألهم شقيقه الأستاذ عبدالرحمن وأخاه لأمه الأستاذ يحيى بن إبراهيم اليحيى, وأخته لأمه أم عبدالله، وعقيلته أم محمد, وأبناءه وابنته أم عبدالرحمن, وجميع أسرته أسرة آل سلطان آل عيدان، ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف