الضغوط والمشكلات يتساوى فيها الناس كافة، وإن كانوا يتفاوتون في ردات الفعل تجاهها، ففي حال سيطرة قبضة مشكلتك عليك بالكامل، فإن ذلك يغطي عقلك، ويضعف من قدرتك عن التوقف لالتقاط أنفاسك الإيمانية واسترداد عدتك الروحية، أو حتى الانتباه لجوانب قوتك، ونقاط تميزك التي تمنحك قوة كافية لمواجهة ما يصادفك في طريقك من عقبات. إذ قد يصل بك غرقك في مشكلتك إلى قصور ينتابك في نظرتك تجاه قيمتك الشخصية، يقابلها حدة نظر تجاه طرف آخر، تتوهم فيه تفوقه عليك، وهو غير جدير بهذا الاستحقاق، سوى لسبب جاء منك؛ وهو وقوع اختيارك عليه ليكون محل ثقتك!.
الثقة في محلها تماماً إن كانت شكواك تسر بها إلى من يتميز بموفور الحكمة، وعمق الوعي، ونفاذ البصيرة، فضلاً عن جانب المروءة، والأناة، وصدق التعاطف الإنساني، وإلا فإنك قد بخست حق نفسك! وانتقلت بمحض اختيارك صوب مشكلة أخرى...
جمعت عشرين سبباً موجزاً، يجعلك تتردد ألف مرة قبل أن تندفع باتجاه هذه الخطوة التي قد تكلفك الكثير. ولا شك أن لديك عزيزي القارئ ما يضاعف العدد...
1- أنت بذلك تفتح أبصارهم على نقاط ضعفك، وثغرات احتياجك، ومكامن شكوكك، ومخاوفك، ولذا فقد رسمت لهم مشهداً كاملاً للنيل منك، واستغلالك {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (13) سورة يوسف.
2- حين تبث شكواك لأحدهم، لا سيما إن كنت تحظى بالتقدير عند جلسائك وفي مجتمعك، يجري تحول في نوع وسير الشعور الكامن في قلوبهم تجاهك، فينتقل من الإجلال والاحترام إلى شعور الرثاء والاشفاق، وقد يعد ذلك المحرك لهم في تعاملهم معك، لاحقاً، وهذا دافع يأباه ويرفضه صاحب الحس العالي من تقدير الذات.
3- عدد من الناس بوعيها القاصر، وكأحد أعراض البحث عن القوة الخارجية، تنجذب نحو الأقوياء والناجحين والأصحاء والأثرياء... وفي حال بحت بشكواك من تبدل جرى عليك في أحد معايير التقييم الاجتماعية السابقة، فإن هذا بدوره قد يضعف إلى حد كبير من قدرتك على إحراز إعجاب الناس، والتفافهم حولك بطبيعة الحال إن كان هذا يهمك...
4- يعتمد عدد من الناس في إسداء النصيحة أو الشفاعة أو الاستشارة أو أي من أنواع الدعم والمساندات، التي يقدمونها للآخرين، على تجاربهم المحدودة، أو نقولاتهم المبتورة، أو رؤيتهم القاصرة، وكل ذلك لا يخلو من نقص، وهوى شخصي، هذا فضلاً عن أن تجاربهم التي تبدو في ظاهرها مماثلة، قد لا يصح استنساخها والاستفادة منها بصورة جديرة.
5- وأيضاً في حال الاختيار الخطأ، فأنت قد منحت الطرف الآخر الفرصة لإظهار تميزه وتأكيد حضور الأنوية خاصته، وقد تكون ممزوجة برائحة الشماتة، وإظهار الفضل، وإبراز التفوق، وإرضاء الغرور، وربما يجدها فرصة مناسبة للتنفيس عن غضب دفين، وتصفية حساب بسبب تجربة قديمة له معك....
6- أنت بشكواك إلى الناس، وإن كنت في حقيقتك بسيطاً، منفتحاً، ظاناً بهم الخير، ولكنك في معيار المتحفظين منهم والناقدين والساخرين يعدونك ضعيفاً، ساذجاً، تستحق الرثاء والشفقة لا أكثر، وكذلك فقد أصبحت وشكواك مادة مثيرة للثرثرة، والتظاهر بالحكمة، والتندر في مجالسهم.
7- حينما تتجاوز محنتك، وتنهض من جديد، فإن هذا التطور قد يزعجهم، فيعمدون إلى ممارسة أساليب احتيالية لإضعافك كأن يذكرونك بمحنتك، تلميحاً أو تصريحاً؛ بقصد تقليص دائرة نجاحك، وإضعاف موقفك، يفعلون ذلك لسببين: لأجل يعيدونك بكيانك المتميز الجديد إلى النسخة القديمة المثخنة بالضعف والألم والجراح، لأنهم ببساطة يريدونك تبدو دائماً محل احتياج؛ لأن ذلك يدعم شعورهم بالتميز والقوة، فضلاً عن كونهم يفضلون الإبقاء على دافعية الرحمة بك دون غيرها لأنها، وحدها من تمدهم بالإحساس بالثراء العاطفي.
8- كلما شكوت محنتك ازدادت كثافة وقوة وتشكلاً طاقياً، لاسيما إذا لقت تفاعلاً شعورياً من الآخرين، وهذا ما يجعلها أكثر قابلية للتعقيد، مع طول زمن معاناتك ومكابدتك..
9- الشكوى المتكررة تقود لمثيلاتها، فما تكاد تخرج من أزمة حتى تسقط في أخرى. وذلك بسبب تكثف التفاف التيارات الطاقية السلبية من حولك...
10- ليست الشكوى صالحة للتنفيس في كافة الأحوال، كما هو شائع في تصور الناس، إذ قد تفضي إلى تفاقم الشعور بالغضب وحدة الشعور بالغبن وبالقهر، بدلاً من الشعور بالتخفيف والراحة، إذ ربما يظهر الطرف الآخر تفاعله الشديد، وتعاطفه المفتعل، فينبهك لجوانب مؤسفة، من الموقف لم تنتبه لها أنت أصلاً، أو يقل لك لو كنت مكانك لفعلت كذا وكذا... وغيرها من العبارات التي تضيف إلى مكابدة شكواك حسرة على نفسك وبؤساً.
11- استنادك لقوى خارجية، يهدد شعورك الكامن في أعماقك بالأمن الدائم، والاستقرار النفسي، لكون المصدر الذي لجأت إليه بشكواك، هشاً وزائفاً.
12- شكواك تجعلك تمتهن الشكوى، وتعزز لديك الشعور بالمظلومية وبتكرار هذه التجربة قد تجد نفسك أسيراً للشعور بالضعف، وإن كنت بارعاً في إتقان دور الضحية، والضعف يجلب مثيله لحياتك.
13- شكواك تجعلك مديناً للطرف الآخر، والشعور بالدين لا يحس بثقله إلا من ذاق مرارته.
14- قد يكون ذلك سبباً في ضعف تدفق الرزق، وانسيابية الخير نحوك، ولمن يحيطون بك، فالناس كما أشرنا سابقاً لا يميلون إلى الاقتران بأهل الشكوى، ومن ثم قد لا يرشحونك لوظيفة أو ترقية ولن يعقدوا معك صفقة وكذلك هم لا يفضلون عقد مصاهرة ونسب معك.
15- حين تأتي ردة فعل عنيفة وغير متوقعة من الطرف الآخر، ويكتشف الشاكي حجم الخطأ الذي وقع فيه حين منح الطرف الآخر، الفرصة كاملة للنيل منه، وتفريغ ما في جعبته من غضب عليه، والشماتة به، ونشر سره، ولذا فإن ذلك الشعور الصادم بانكشاف الوجه القبيح، قد يفوق المشكلة بأسرها.
16- استحقاقك للإعانة الألوهية، ينقص بحسب لجوؤك إلى طلب معونة البشر، وكل بقدره {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} (1) سورة المجادلة، فقد استحقت تنزل وحي بحل مشكلتها فوري، ومن السماء، إذ على الرغم من وقوفها أمام أشرف البشر، لم تنس رب البشر، فقالت مناجية «اللهم إني أشكو إليك».
17- في حال عرض شكواك ومهما بلغتَ من الديانة والإنصاف والمراقبة، فهي لا تخلو من نقص في المشهد، فضلاً عن المغالطات الصورية، والسيناريوهات المفتعلة، وأحادية عرض آراء أطراف الخصومة. وسيشر عليك الطرف الآخر بموقف يتفق مع ما سمعه منك، وهذا سيقودك مباشرة إلى طريق شائك آخر، تتحمل فيه تبعات خطئك الجديد، وتقصيرك في المعالجة.
18- عرض مشكلتك للآخر قد لا تخرج منه إلا بمضيعة لوقتك، وتبديد لطاقتك، وإضعاف لصحتك؛ فالآخرون ممتلئون بأنفسهم، وهم أيضاً غارقون في مشاكلهم...
19- شكواك الدائمة تضعف من نموك الشخصي؛ إذ المشكلات لا تخرج عن طاقتك، فمعالجة جادة لنقاط ضعفك، والوقوف على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء المشكلة، وتأمل الجوانب المشرقة الكامنة خلفها، قد لا يزودك بها غيرك لجهله بها.
20- شكواك الدائمة تحرمك من التطور الروحي؛ وهذا لا تصله بالشكوى للآخرين إنما بالتحلي بالصبر الجميل الذي يتضمن: اللجوء الكامل لله تعالى، يصحبه قبول الوضع والرضا به، والامتنان لما لديك، تمارس ذلك مع عمق وعي، أثناء الغوص في أعماقك، ومحاسبتها.
بينما ديمومة الشكوى تجعل منك شخصاً عالقاً بالخارج، محدود الرؤية، قاصر النظر كمن أُغلق دونه باب، فبقي عمره نادباً حظه، يطرق بابه، في حين أن الأبواب من حوله مشرعة على مصراعيها!.
وأخيراً كما قيل «قبل أن تطلب من أحدهم المساعدة انظر إلى أجنحته لا إلى كلامه!»