عودة على كتاب «الخيال الممكن» للأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، الذي تناول فيه رحلة التأسيس والبناء المؤسسي، والانتقال إلى التحولات الفكرية وصناعة الشراكات، ومروراً بالتحديات والحلول، ونهاية بالقطاف والمكتسبات. وبالتمعن في حزمة كبيرة من القرارات والتجارب، وبالتركيز على الأحداث والمواقف والدروس المستفادة، يلفت الانتباه قضية في غاية الأهمية، تكمن في «الفرص الضائعة» والتي أشار إليها الكتاب بصورة مباشرة وغير مباشرة، خاصة تلك «المبادرات المبكرة» التي قدمها الأمير سلطان بن سلمان على هيئة أفكار ورؤى ومقترحات وبرامج لم يكتب لها أن ترى النور أو جاءت في مرحلة متأخرة في دورة حياة المدن السعودية.
الراصد عن قرب، يمكنه أن يستنتج أن التنمية العمرانية في المملكة تعيش في الفترة الراهنة نقلة نوعية على مستوى التشريعات والأنظمة ونمط التطوير والمشاريع الاستراتيجية، والتي أورد كتاب «الخيال الممكن» العديد منها خاصة تلك التي كانت تُعنى بالسياحة والتراث الوطني كحقلين مؤثرين في منظومة التنمية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال تعزيز قِيم المكان، وجعل المدن صالحة للعيش وملائمة لحياة الناس. البعض من هذه المبادرات والمشاريع شهد انطلاقة حقيقية والبعض الآخر (لم يُمكّن) وتوقف لأسباب إدارية أو تنظيمية أو مالية وغيرها، وأخرى ربما لم يكن هناك قناعة بها لدى كثير من مسيري المدن -آنذاك-.
التوجه العالمي في منظومة التنمية الحضرية يتجه إلى تقليص الدعم الحكومي المباشر للمدن وتحميلها مسئولية إيجاد مصادر تمويل محلية تمكنها من الصرف على مشاريعها، وهذا بكل تأكيد سيدفع بها إلى الاعتماد بشكل رئيس على استثماراتها المحلية لتغطية تكاليف العقود الباهظة لأعمال الصيانة والتشغيل على الأقل، وسيحفزها على تجاوز الأسلوب النمطي في الاستثمار الذي كان منحصراً في تأجير الأراضي والمرافق البلدية، إلى أبعاد استثمارية أخرى تُعنى بفلسفة اقتصادية تستثمر في «الميز النسبية» و»الميز التنافسية» لهذه المدن، التي تأتي السياحة والتراث الحضاري في مقدمتها متى ما تم التعامل معها كصناعات منتجة وكبديل تنموي واقتصادي رئيس، وانعكس ذلك (عملياً) داخل أروقة الإدارة العمرانية.
السؤال هنا، هل احتاجت المدن السعودية كل هذه السنوات لتتولد لديها القناعة بأهمية السياحة ومقومات التراث الوطني وبحجم تأثيرها على كفاءة اقتصادياتها؟، ولماذا تأخرت كل هذه المدة؟ وماذا لو استمعت لكثير من الأطروحات التي قدمها الأمير سلطان بن سلمان في هذا المجال ودافع عنها -حتى قبل البناء المؤسسي للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني- في العديد من المحافل المحلية والإقليمية والدولية؟ حتماً ستكون قد تجاوزت عشرين عاماً مضت من «المشاريع الطموحة»، ولأصبحت السياحة والتراث الوطني وما يرتبط بها من صناعات تنموية هي المصدر الأول لموارد التنمية القطاعية، أنا هنا لا أتحدث عن حالة نظرية أو فرضية -على سبيل الأمنيات- بل عن «وثائق» تحملها عربة الذاكرة الإعلامية، في وقت كان يُنظر إلى تلك الأفكار على أنها مجرد «ضرب من الخيال» وعالم لم يأت بعد.
خلاصة القول، المدن «المترددة» لا يمكنها صناعة المستقبل، فالغد يفسح الطريق لمقتنصي الفرص، ومن يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات «الجريئة» و»المبكرة»، التجارب العالمية أثبتت أن المدن التي تخلت عن أنظمتها المتقادمة وتبنَت أفكاراً «مبدعة» هي التي استطاعت بناء منظومة عمل مؤهلة وقادرة على إحداث «الفارق» في نمط وجودة الحياة، وتحولت إلى وجهات اقتصادية جاذبة، واستثمرت في الوقت والإنسان والمكان. الأمل لازال موجوداً والفرص لازالت سانحة، الأهم أن تمتلك مدننا إرادة «التغيير»، واستعادة تلك الفرص «الضائعة» وأن تستثمر مرحلة التأسيس والانطلاق التي وظفت فيها هيئة السياحة ثمرة الأفكار والعقول، فالتحدي لا يكمن في البدايات الطموحة فقط بل بمواصلة الطريق قُدماً نحو الهدف.
** **
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن