وقفتُ على جبل الصفا ميمِّماً وجهي شطر الكعبة المشرفة، رافعاً يدي وأنا ألهجُ بالدعاء، وحولي أناس من جنسيات شتى وبلغات ولهجات شتى، يلهجون كما ألهج، حتى إذا فرغت من الدعاء، وبدأت السعي، لاحت مني نظرة على المسعى ما بين الصفا والمروة وقد عجَّ بألوف مؤلفة من البشر، رجالاً ونساء، شيباً وشبَّاناً، ألوانهم مختلفة، وأشكالهم مختلفة، ولهجاتهم مختلفة، أتوا من كل فج عميق، من أصقاع بعيدة وبلاد نائية، يحدوهم الرجاء، ويملأ قلوبهم الشوق، ربما أنفق الواحد منهم جلَّ عمره يدخر، ويقتطع من قوت يومه، لتسعد عينه برؤية الكعبة المشرفة، ولكي تمسَّ أقدامه هذه الأرض الطاهرة المباركة، ولينعم بضيافة الرحمن، ويكون في رحابه مع هذا الجمع الطيب المبارك.
تابعت الأمواج الهادرة من البشر، التي امتلأ بها المسعى عن آخره، ذلك المدى الممتد من الوجوه الطاهرة، والثياب البيضاء الناصعة، والقلوب النقية، وقد تركوا الدنيا خلف ظهورهم، وخلعوا عنهم ثيابها وما يربطهم بها، ما بين ساعٍ ومهرول، لا تميّز فيهم غنياً عن فقير، ولا خفيراً عن وزير، الجميع في رداء واحد، لبَّوا نداء ربهم من كل فج عميق، في هذا الوادي الذي لم يكن سوى وادٍ مجدب، غير ذي زرع، ولا ماءٍ، ولا أنيس من البشر، حين رفع إبراهيم عليه السلام يديه إلى السماء، وهو يودِّع طفله وزوجته، ويتركهما للقدر المرهوب، داعياً ربه في ابتهال النبي والأب والزوج: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم 37).
لم يكن في هذا الوادي، الذي يعجُّ الآن بالبشر، أشكالاً وألواناً، أمواجاً متدفقة هادرة، سوى امرأة وحيدة وطفلها الصغير، في غربة موحشة، وصحراء قاحلة، وشمس متقدة، فكان إيمانها بأن الله لن يضيعها ووليدها سلاحها، الذي يعينها على الحياة، وكان صبرها زادها في هذه المفازة.
تداعت إلى خاطري، وأنا أرى هذه الألوف الساعية المهرولة، صورتها وحيدة وهي تهرول مسرعة ما بين الصفا والمروة، حافية القدمين، ربما، على رمال وحصى متقد، وقد انفطر قلبها على طفلها الذي يتلوى عطشاً وجوعاً، بعد أن نفد ما معها من ماء وتمر. إن يد الموت تقترب من ذلك الصغير، ولن تقف مكتوفة الأيدي في انتظار هذا المصير المرهوب، فما كان منها إلا أن انطلقت مهرولة تبحث عن ماء في كل اتجاه، فكان جبل الصفا الأقرب إليها فصعدته متعجلة، وتطلعت متلهفة من فوقه في كل ناحية علَّها تجد أحداً يغيثها ووليدها، أو تجد ما يبلُّ ريق طلفها ويذهب عنه وعنها الظمأ والجوع، ويسكت بكاءه الحارق، حتى إذا أبصرت من فوقه، وعلى الجهة الأخرى منه فوق جبل المروة، سراباً ظنَّته ماءً، نزلت عن الصفا وراحت تسعى مهرولة في الوادي باتجاهه، وهي تمني نفسها بزوال الهم وانفراج الكربة، ولكم كانت حسرتها حينما لم تجده شيئاً، فوقفت منهكة، إلّا أنها لم تفقد الأمل فعاودت النظر متلهفة، ولاح لها ما يشبه الماء في الجهة الأخرى على الصفا، فعاد إليها الأمل، وعاودت الهرولة إلى الصفا، ولكنها لم تجده شيئاً، وهكذا في كل مرة، حتى فعلت ذلك سبع مرات متتابعات متواليات. وكأني أشعر بقلبها الذي يكاد ينخلع من موضعه، وكأني بها، وصورة طفلها، الذي أحرقت الشمس وجهه، وجفف القيظ والحر ريقه وجلده، لم تفارق مخيلتها وهي تهرول ما بين الصفا والمروة، في لهفة خلف سراب تظنه ماء، حتى إذا استبَّد بها الإجهاد ونال منها التعب، وفقدت الأمل في الماء، وأوشكت على الموت عطشاً، نظرت إلى طفلها، وكأنها تتأسف له أنها لا تملك له ولنفسها من الأمر شيئاً، فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة فرحة، وراحت تجمع حوله الرمل خشية أن يضيع في الرمال سدى، وهي تقول: زم زم. ثم انحنت على طفلها لتسقيه، حتى إذا اطمأنت أنه ارتوى، ارتاح بالها وقرت عينا، ثم أخذت هي تشرب حتى ارتوت.
هذه السيدة الجليلة، هي السيدة هاجر، الذي صار سعيها وهرولتها بين الصفا والمروة من مناسك عبادة المسلمين في الحج والعمرة. أميرة مصرية، أو جارية، شاء لها القدر أن تكون زوجة أبي الانبياء إبراهيم، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأمّاً لابنه إسماعيل جد العرب العدنانيين. فتذكر الروايات التاريخية أنه عندما جاء إبراهيم إلى مصر، في زمن العماليق من الهكسوس، بصبحة زوجته «سارة» أراد ملك مصر سوءاً بسارة، فدعت اللهَ عليه، فشُلَّت يداه، فطلب الملك منها أن تدعو ربها أن يشفي يديه، وعاهدها ألّا يمسها بسوء، ففعلت، وشفيت يداه، فأهدى إليها هاجر إكراماً لها. فآثرت سارة أن يتزوجها إبراهيم، لعلمها برغبة زوجها في الذريِّة، وكونها لا تنجب. وهكذا حقق الله دعوة إبراهيم عليه السلام، وحملت هاجر «فبشرناه بغلام حليم»، هو إسماعيل عليه السلام.
وهاجر، اسم علم أعجمي، يجد توافقاً بينه وبين لفظ الهجرة في العربية الفصحى الذي يأتي من الفعل «هاجر». وهو توافق وانسجام من قبيل الصدفة، وقلما يحدث ذلك، فاستخدام هذا الفعل في العربية يعني الخروج من البلد والهجرة والترحال، وقد تسمت السيدة هاجر بهذا الاسم قبل أن تهاجر إلى الصحراء حيث مكة. وأصل الاسم، كما يرى البعض، يأتي من اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» بمعنى «زهرة اللوتس». ويشمل شقين، الأول: «ها»، وتعني بالهيروغليفية زهرة اللوتس، والثاني: «جر» وهي تحريف عبري للفظة «جب»، أي أرض مصر، أي أن الاسم يعني: «زهرة اللوتس المصرية». ونبات اللوتس، نبات مائي يحمل أزهارًا كبيرة ومجوفة وبألوان متنوعة تراوح بين الأبيض النقي والأحمر الوردي. وهي أزهار عطرية ترفع الزهرة رأسها فوق ساق طويلة ونحيلة، تظهر فوق أوراق ناعمة تشبه مظلة مقلوبة تفترش ماء النهر. وتفتح الزهرة تيجانها مع شروق الشمس كل صباح، وتقفلها عند الغسق، طوال خمسة أيام. وعندما يولي اليوم الخامس، تسقط بتلات الزهرة ليظهر مكانها قرنة خضراء لبِّية تنحني نحو الماء وتلقي بذورها، لتبدأ دورة حياة جديد، ولهذا رأى المصريون القدماء فيها رمزاً للخلق وتجدد الحياة.
ويُذكر أن اسم هاجر قد ورد ذكره في التوراة، في سفر التكوين، كما ذكر في الأحاديث النبوية، وذكرها النبي، صلى الله عليه وسلم، بلفظ أم إسماعيل أيضاً، وأشير إليها في القرآن دون تسمية. ويعتقد أهل النوبة في جنوب مصر وشمال السودان، أن السيدة هاجر نوبية الأصل. وأن اسمها يقابله في النوبية كلمة «هاقجر»، التي تعنى «الجالس أو المتروك» في إشارة ربما لتركها وحيدة في مكة، والمعنى المباشر للكلمة هو «سوف أجلس». وقد يكون هذا متوافقاً إذا كان اسمها قد جاء بعد مكوثها وحيدة في مكة وترك نبي الله إبراهيم لها وابنها هناك. كما يدعمون فرضية أصولها النوبية بأن كلمة «زم زم»، التي نطقت بها السيدة هاجر عندما انفجر الماء عند قدمي طفلها إسماعيل عليه السلام، نوبية الأصل أيضاً، حيث يقابلها في اللغة النوبية كلمة «سم سم»، والتي تعنى بالعربية فعل الأمر من «جـف»، فقد كررتها مراراً وهي تدعو الماء للتوقف سم سم، وتحور النطق لتصبح زم زم. كما يرى أصحاب هذه الفرضية أن ابنها إسماعيل كان رامياً بارعاً للسهام، وهذا أحد أهم المهارات التي تميز بها النوبيون القدماء، الذين عرفوا تاريخياً باسم رماة الحدق في حروبهم مع الأشوريين، والفرس، والرومان. وإن كنا نرى أن مهارة رمي السهام تأتي بالتدريب والممارسة، وليست بالفطرة والسليقة أو الوراثة الخالصة، فهل ورثت أمه هذه المهارة في صغرها، ومن ثم قامت بتدريبه عليها، حتى برع فيها، هذه أمور غير معلومة الجواب.
وكان إبراهيم، عليه السلام، عندما رزق بابنه إسماعيل، قد اشتعل منه الرأس شيباً، وشاخ وهرم، فكان عليه السلام في السادسة والثمانين من العمر، وكانت سارة قد بلغت سن اليأس من الإنجاب، فتعاظمت غيرتها على الزوجة الولود، وبات إبراهيم عليه السلام في حيرة من أمره، كيف يستطيع التوفيق بينهما وهو شيخ كبير. وبدأ إبراهيم عليه السلام يناجي ربه، ويطلب أن يعينه ويساعده، فبشره الله سبحانه بولد آخر تنجبه سارة: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود 71 - 73).
حتى إذا مرّت خمس سنوات من ولادة إسماعيل عليه السلام، أنجبت سارة إسحاق عليه السلام. ولحكمة أرادها الله؛ وتحاشياً لما قد يقع بين الزوجتين وولديهما من المشاحنات والخلافات، أمر الله سبحانه خليله إبراهيم أن يخرج بإسماعيل وأمه هاجر، ويبتعد بهما عن سارة، التي اغتمت كثيراً وثقل عليها أمر هاجر وولدها إسماعيل، بعد أن صار لها ولداً.
أذعن إبراهيم لأمر ربه، فخرج بهاجر وابنها إسماعيل، وسار بهما في صحراء ممتدة حتى وصلوا إلى وادٍ، لا ماء فيه ولا شجر ولا بشر. وأوحى إليه ربه أن يتركهما في هذا المكان دون زاد وماء غير تمر قليل وقربة ماء صغيرة، فخافت هاجر على طفلها من الهلاك، وعلى نفسها من الجوع والعطش، وكأني بها تسأله ألا يتركهما في هذا الواد المقفر القاحل، ويرِّق قلبُ إبراهيم ويتحير في أمره، ولكنه يتذكر أمر ربه ووحيه إليه، فتلحُّ عليه وتتوسل إليه، وهو منصرفٌ عنها لا يلتفت إليها حتى لا يتأثر بالعاطفة ويحن عليهما، وينسى أمر ربه، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، عندها لاذت بالصمت، ورضخت لأمر الله وإرادته، وقالت في ايمان وثقة: «إذن لا يضيعنا». هذا هو الإيمان في أبهى صوره، والثقة فيما عند الله في أوج بهائها ونقائها. هنالك رفع إبراهيم عليه السلام يديه بالدعاء، وهو الأب الحنون، والزوج العطوف، والنبي الأواب المنيب، متضرعاً إلى الله، وهو يلقي عليهما نظرة الوداع، ويتركهما ولا يدري عن أمرهما شيء، ولا حيلة له إلا الدعاء والتضرع والرجاء: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم 37).
** **
- د. محمد أبو الفتوح محمود غنيم