عماد المديفر
يورد «برنارد لويس» أحد أعظم المؤرخين والمفكرين المعاصرين المختصين بالمنطقة وتاريخها، قصة تاريخية مسندة، غايةً في الأهمية والدلالة فيقول: «وهناك قصة أكثر إثارة يحكيها كمال الدين نقلاً عن أخيه فيقول: «أخبرني أخي - عليه رحمة الله - أن سنان (مرشد الحشاشين وزعيمهم) أرسل مبعوثاً إلى صلاح الدين -رحمة الله عليه- وأمره أن يسلم رسالته إليه دون حضور أحد فأمر صلاح الدين بتفتيشه وعندما لم يجدوا معه شيئاً خطيراً أمر صلاح الدين بالمجلس فانفض ولم يعد ثمة سوى عدد قليل من الناس، وأمر المبعوث أن يأتي برسالته، ولكن المبعوث قال: «أمرني سيدي ألا أقدم الرسالة إلا في عدم حضور أحد» فأمر صلاح الدين بإخلاء القاعة تماماً إلا من اثنين من المماليك يقفان عند رأسه وقال: أنت برسالتك، ولكن مبعوث سنان أجاب: «لقد أُمرت بألا أقدم الرسالة في حضور أحد على الإطلاق» فقال صلاح الدين: «هذين المملوكين لا يفترقان عني -كما لو كانا سكرتيراه أو حرسه الخاص جداً أو مدراء مكتبه- فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل» فقال المبعوث: «لماذا لا تصرف هذين الاثنين كما صرفت الآخرين؟» فأجاب صلاح الدين: «إنني أعتبرهما في منزلة أبنائي وهم وأنا واحد» عندئذٍ التفت المبعوث إلى المملوكين وسألهما: «إذا أمرتكما باسم سيدي أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟» فردا قائلين: نعم، وجردا سيفيهما وقالا: «اأمرنا بما شئت» فدُهش السلطان صلاح الدين -عليه رحمة الله- وغادر المبعوث المكان وأخذ معه المملوكين» وأوصل رسالته. انتهى، من كتاب (الحشاشون: فرقة ثورية في تاريخ الإسلام).
لم يفتأ تنظيم الإخوان المسلمين، منذ تأسيسه، في استهداف هذه البلاد بالخصوص، وهو ما يظهر بجلاء من أدبياتهم. يقول الأمير نايف عليه رحمة الله: «جماعة الإخوان المسلمين أصل البلاء. كل مشاكلنا وإفرازاتنا جاءت من جماعة الإخوان المسلمين». والحقيقة التي لا خلاف عليها أن التنظيم استطاع بالفعل اختراقنا منذ الخمسينيات والستينيات حيث كانت بداية هجراته الأولى، وقد ذكر ذلك سمو سيدي ولي العهد أيده الله، وقبله سمو مستشار خادم الحرمين الشريفين الأمير خالد الفيصل -يحفظه الله -. يقول علي عشماوي في كتابه (التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين): «وقد حملتني الحاجة زينب الغزالي -قيادية إخوانية في المملكة- رسالة شخصية.. إلى الأستاذ سعيد رمضان ورسالة أخرى إلى الشيخ عبدالرحمن أبو الخير، وقالت لي إنه سكرتير الملك سعود وأعطتني رقم تلفونه الخاص»، وتحت عنوان «قيادات المهجر» ينقل عشماوي سؤاله لمحيي هلال، أحد الإخوان الذين هاجروا إلى السعودية، فيقول: «وبعد أن سمعت قصته سألته عن حال الإخوان، فأجاب: إن الإخوان في السعودية قد اختاروا منّاع القطان مسؤولاً عنهم.. إنه أحد إخوان المنوفية، وقيل إنه أوَّل مصري يجرؤ على تجنيد سعوديين في دعوة الإخوان في مصر للشباب السعودي» ويضيف: «أخذت الخطاب وذهبت للأستاذ سيد قطب وطلبت مقابلته دون موعد سابق وقابلني، وقرأ الخطاب وأبدى إعجابه الشديد بالإخوة في السعودية وقال: إن هذا دليل على أنهم منظمون جداً، وأنهم على كفاءة عالية من العمل». وكان الإخوان، وخاصة «البنائيون»، يقدمون أنفسهم كتنويريين ومنفتحين ودعاة تطور منذ ذلك التاريخ، لاسيما وأنهم على كفاءة عالية مهنياً وأكاديمياً، تقول زينب الغزالي: «في ليلة من ليالي ذي الحجة (1957م) كنت على موعد بعد صلاة العشاء مع فضيلة المرحوم الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر للمملكة العربية السعودية حينذاك.. وكنّا نبحث معاً مذكرة قدمتها لجلالة الملك أشرح له فيها ضرورة تعليم البنات في المملكة، وأطلب منه الإسراع في تنفيذ هذا المشروع، مبينة مصلحة المملكة في ذلك، وحوِّلت المذكرة على فضيلته المفتي وطلب مقابلتي». وقد استمروا في التغلغل والعمل المنظم والمخطط جيداً منذ ذلك التاريخ، لتحقيق اختراق من الداخل، فاستهدفوا بداية-كما يذكر الباحثون- تحقيق السيطرة على العملية التعليمية والتربوية كرقم واحد، والسيطرة على الجمعيات الخيرية والوقفية ومايضمن جمع الأموال واستثمارها، والسيطرة على المؤسسات والوزارات والمنظمات ذات الطابع الشمولي، كالمؤسسات والمنظمات والوزارات الإسلامية ذات الأدوار السياسية، والتغلغل في كل أعصاب المجتمع وكل طبقاته بشتى السبل.
لقد وضع تنظيم الإخوان المسلمين جل قدراته في اختراق المملكة ومحاولة «أخونتها» من الأسفل إلى الأعلى، والتركيز على من يمكن له وأن يتولى في يوم مهام في أماكن حساسة، ويكشف ذلك تلك الإحصائيات التي تكشف أن ما لايقل عن أكثر من (سبعين) قيادياً إخوانياً وصلوا إلى المملكة وعملوا فيها، بما فيهم ثلاثة أو أربعة ممن أصبحوا بمرتبة «المرشد الأعلى» للإخوان المسلمين أو «المراقب العام» للإخوان في بلاده؛ كعمر التلمساني، وحسن الهضيبي، ومحمد الصواف، وعباس السيسي، وعبدالله عزام، وأيمن الظواهري، ومحمد قطب، ويوسف القرضاوي، والزنداني، والترابي، وسعيد رمضان وغيرهم. يقول القيادي الإخواني الأبرز، والعقل المدبر للعلاقات الدولية للتنظيم «يوسف ندا»: «إن لدى التنظيم عملاء ووسطاء محل ثقة في دولهم، وفي الأماكن التي يتحركون فيها، وينبغي ألا يُعْرَفوا بأنهم إخوان مسلمون وإلا سيُرفضون.. ويسجنون»..! ويصف «ندا» عينة من هؤلاء العملاء المتخفين في هذه الشبكة فيقول: «أشخاص في الظل، بمثابة البُقع السوداء في ارتفاعات لا يكشفها الرادار، ولكن عند الحاجة إليهم يتم إيقاظهم، وهذا ما نتبعه في كل الأماكن التي تحظر نشاط الإخوان.. نعلم أن هؤلاء الرجال قَبِلوا بنا ولهم نفس أفكارنا ونأمل إذا طلبنا منهم شيئاً أن يفعلوه»..! ويضيف: «للإخوان المسلمين شبكة حول العالم».. ويمضي القيادي الإخواني يوسف ندا، معترفاً بعظمة لسانه خلال نشوة السُكْر التي غمرت قادة التنظيم الدولي أثناء فترة ما سمي بـ «الربيع العربي» فصرّح للكاتب «دوغلاس تومسون» في عام 2012م ما نصه بأنهم «قريبون من ملوك السعودية» و«عند أذن الملك» منذ عهد «الملك فيصل» عليه رحمة الله، بحسب قوله، وأن عميلهم هذا الذي كان مقرباً عند الملك فيصل، «طبيباً ماهراً، وأصبح الطبيب الخاص للملك» وأنهم حريصون على عدم كشف انتماءات عملائهم أو التواصل معهم مباشرة كون «أجهزة الأمن تتحرى دائماً عن انتماءات جميع المقربين من زعمائهم»..
كان هذا العمل منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، واستمر التنظيم العالي في المهنية والحرفية في العمل داخل المملكة حتى قيل إنه تمكن من التحكم في مناهج التعليم، وبالمنظومة التعليمية، وتجنيد وأخونة العديد والعديد داخل المملكة، ومن أبناء عوائل وأسر مرموقة، وربما بعضها له تاريخ في تأسيس المملكة، سواء أكان ذلك تجنيداً صريحاً، ببيعه، أم تجنيد إيمان بالأفكار، واندماج بالمنظومة السرية بشكل غير مباشر، ولربما أصبح العديد من هؤلاء -بطبيعة الحال- وبحسب مخطط مرسوم ويتم تحديثه، في أماكن مهمة يستهدفها التنظيم دون شك، خاصة الفصيل (البنائي) الحربائي شديد التلون، وهنا نستحضر الحشاشين وصلاح الدين، لاسيما وأن باحثين يَرَوْن بأن فكر الإخوان -بشقه الحركي- ما هو إلا تطوير رفيع، عالي الذكاء، مستلٌ من فكر الحشاشين الثوري.
إلى اللقاء.