«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
في زمن القراءات الجادة أيام لم يكن هناك من يبعدنا عنها إلا الدراسة أو ما نكلّف به من مهام ومسؤوليات من أولياء أمورنا. ومع هذا كنا نسرق الوقت لنعيش أوقاتاً طيبة مع الكتب والمجلات. ومرة قرأت معلومة صغيرة عن مستشرق نمساوي « عجيب»، بل كان مدهشاً ومثيراً ومحفزاً ليجعلك تقضي وقتاً أطول في القراءة والاطلاع. ومن المستحيل أن تحقق شيئاً ولو يسيراً مما قام به وفعله ليكتسب كل ما وصل إليه من علم ومعرفة وتميز إنه (البارون النمساوي جوزيف همر فون بورجستال) الذي ولد عام سنة 1774 في مدينة جراتس في جنوب شرقي النمسا. وكان أبوه موظفاً في الحكومة النمساوية. وبعد أن أنهى دراسته الأولى جاء إلى فيينا في سنة 1788 ليدرس في الأكاديمية الإمبراطورية للغات الشرقية. ليتخرّج منها ويعمل في تركيا في السلك الدبلوماسي النمساوي، وكانت الأكاديمية التي تأسست سنة 1754مخصصة لتعليم اللغات لموظفي السلك الدبلوماسي. وهي اليوم كلية فيينا للدراسات الدولية، وتعلّم فيها فون همر العربية والفارسية والتركية، وإلى جانب الألمانية كان يتكلم اللاتينية والفرنسية واليونانية والإيطالية. وبدت ملامح نبوغه في المدرسة، وصار محل رعاية المستشار النمساوي فون كوبينزل. فشارك وهو طالب في السنة الأولى في الترجمة لبعض البعثات التركية الزائرة. هذا المبدع في مختلف المجالات كونه الدبلوماسي النمساوي والمؤرّخ والمترجم والمحقق والمؤلف ورائد المدرسة الجرمانية في الاستشراق. وتشير المراجع القليلة والمتوفرة عنه أنه في سنة 1800 شارك في الحملة البحرية البريطانية العثمانية التي استهدفت إخراج نابليون وقواته من مصر وسواحل فلسطين. وعمل مترجماً لقائدها الأدميرال وليام سيدني سميث. وشهد حصار الإسكندرية واستسلام القوات الفرنسية التي تركها نابليون فيها. كما شهد استلام عكا. وانتهت الحملة في سنة 1801 بخروج فرنسا من مصر وانتهاء المحاولة النابليونية لاحتلالها. وبحكم عمله الدبلوماسي وعشقه للعلم والمعرفة فبات البارون «همر بورجستال « يسعى بجديه في اكتساب معرفة باللغات الحية فلم تمضى سنوات على دراسته لها فإذا به يجيد وبصورة مدهشة جميع اللغات السامية ويتكلم معظم اللهجات العربية وبلغ من شدة شغفه وحبه للعرب أنه شيد قصراً في بلدة «فيدلنج» النمساوية ملأه بالزخارف الشرقية والخطوط العربية وكتب على أبوابه عبارات ترحب بالقادمين بالخط الكوفي كما أنه بنى في حديقة القصر قبراًعلى طراز القبور الإسلامية أوصى أسرته في حالة وفاته أن يدفن فيه والجميل أنه كان يرتدي في قصره وحياته بين أفراد أسرته الملابس العربية الواسعة والفضفاضة ويقدّم إلى ضيوفه القهوة المصنوعة على الطريقة العربية. والجدير بالذكر أنه خلال حياته (1774-1857) قد منح 15 وساماً من ملوك أوربا وكان يحمل ألقاباً فخرية من معظم الجامعات فضلاً عن أنه كان عضواً في نحو 50 جمعية علمية وهيئة ثقافية وتاريخية في مختلف دول العالم أيام حياته. والمدهش أنه كان يستعمل في مكاتباته خاتماً على الطراز العربي نقش عليه «السياح الهام يوسف حام» والطريف أنه يردد بينه وبين معارفه وأصحابه أنا اسمي يوسف عمر وليس جوزيف همر.. هذه معلومات مختصرة عن عالم موسوعي. أحب العالم العربي والإسلامي. وفتن بجماليات الفنون الإسلامية وزخارفها وبالتالي وظّفها في قصره. وجوانب من حياته. ومع هذا هناك من لا يعرف عنه. وحتى المراجع عن هذا العبقري. محدودة جداً.. وعندما زرت قبل سنوات النمسا مع الأسرة تمنيت أن أذهب إلى قصره في بلدة «فيدلنج» والذي قرأت عنه قديماً وأشرت إليه هنا في هذه الإطلالة. لكن البرنامج لم يتيح لي ذلك.. والبارون همر أو عمر. يستحق أن يكتب عنه العديد من الكتب فهو اهتم بالتاريخ والأدب العربي وألَّف العديد من الكتب ومن أهمها كتبه عن رحلاته في أرجاء تركيا واليونان ومذكراته عن ذلك وكتب كذلك قصة بطلها عنتر بن شداد، وترجم بعضاً من قصص ألف ليلة وليلة. هذا وربما تتيح لي الفرصة أن أكتب عنه موضوعاً مطولاً فهو جدير أن يشار إليه. ويحتفى به. فجهوده في نشر الثقافة العربية مشكورة وموثقة.. وماذا بعد لقد أصدر فون هَمَر في سنة 1809م مجلة علمية أدبية باللغة الألمانية أسماها: مخزَن الكنوز المشرقية ومعدِن الرموز الأجنبية. وجعل شعارها على غلافها الآية القرآنية من سورة البقرة: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وخصص هذه المجلة لنشر ما يتعلّق بالشرق..