عبد الله باخشوين
عندما قررت الحكومة السعودية نقل (عموم القوات العسكرية) من قاعدتها الكبرى ومكان تجمعها الأساسي في مدينة الطائف إلى (المنطقة الجنوبية) بعد تأسيس (قاعدة خميس مشيط) في نحو 1380 للهجرة تقريباً، كنت أيامها في الصف (الخامس الابتدائي).
ولأن أبي (جندي سائق) فقد كان مكلفاً بإيصال (تريلا) ضخمة عبارة عن (مستشفى ميداني) بعد عدد من الرحلات المكوكية لنقل موجودات (المستودعات) المختلفة التي كان بعضها مبنياً (تحت الأرض) لخطورة المواد المخزنة فيه.. وكاد يكتمل نقل الأفراد ولم يبق في الطائف سوى القليل.
هنا ظهرت (مشكلات) بعض قادة الجيش الكبار ومنها مشكلة (العم يوسف بسيوني) الذي سوف يضطر لترك والدته (المقعدة) وزوجته السيدة الفاضلة (رحمة محمد عالم) وابنته الوحيدة - في ذلك الوقت - وفاء ذات العام الواحد تقريباً.
وعلى طريقة أبي عندما يريد أن يتخذ قراراً يفرضه على أمي كأمر واقع -فيما بعد- سألني:
-- ها يا عبدالله.. أيش رأيك؟! تقعد عندهم تونسهم وتلعب مع البنت الصغيرة وتجيب لهم العيش والحليب من (اللبان) الين يرجع عمك يوسف بعد شهر أو شهرين.
وأخذ يناور:
-- لا تقول أيوه ولا لا ألين تجرب، جرب واحنا هنا إذا عجبتك الحياة عندهم أقعد وإذا ما عجبتك ارجع.
قلت:
-- طيب وأمي
قال:
-- اش دخل أمك في الموضوع.. الرأي رأيك والشورة شورتك. وانتقلت للحياة عندهم أو معهم.. فكانت عائلة أكثر من ميسورة الحال، عائلة (عصرية) شديدة الطيبة والبساطة، لديهم خادمة منزلية ولم يكن مطلوباً مني سوى ما قال أبي مع الذهاب للمدرسة بمصروف طبيعي وحتى سفرة الطعام لا توضع إلا إذا حضرت، ولدهشتي فقد تعلقت بي ابنتهم بسرعة وأصبح عليَّ إذا أُرسلت لـ(الدكان) أن أجعلها لا تراني حتى لا تأخذ في البكاء.
الغريب أنني رأيت وفاء مع (خالاتها) صديقاتي المبدعات (شادية ورجاء عالم) في حضور زوجتي ولفيف من الأصدقاء والأساتذة أبرزهم الأستاذ الكبير المرحوم عابد خزندار وكانت وفاء قد أصبحت (دكتورة) وأخوها شاب ملئ السمع والبصر.
تحدثنا كثيرًا دون أن أجرؤ على سؤالها عن أمها وأبيها أو أتأكد منها أو من خالاتها هل هي الطفلة نفسها والأسرة نفسها أم أن الأمر مجرد تشابه أسماء، وحتى هذه اللحظة لم أعرف لأني لو عرفت كنت سأطلب أخذي إليهما للسلام عليهما.
وأغرب ما في هذه التجربة أنني امتهنت الصحافة وكتبت في الأدب رغم إنني خجول جدًا وكنت أعاني الأمرين من خجلي عند تكليفي بإجراء حوار مع أحد المسؤولين لكني كنت مجبرًا على التواجد في (الوسط) الصحفي والثقافي.. وفيما بعد اكتشفت بأسف شديد أن مقاومتي -للخجل- اكسبتني نوعاً غريباً من (الوقاحة) التي ظن كثير من الزملاء أنها (جرأة) في الطرح والنقاش فيما هي مجرد وقاحة إنسان تربى بين شوارع وأزقة أحياء الطائف وتردد على المقاهي.. ودخلت عالم الكتابة ومضيت فيه متأثرًا بشاعرين بائسين هما بدر شاكر السياب وجان أرثور رامبو
وأعلى مستوى تعليمي وصلت إليه الحصول على الشهادة الابتدائية بعد رسوب مرتين. وكل ما مر بحياتي وضعني أمام حقيقة لا مجال للنقاش فيها هذه الحقيقة جعلتني اندفع في دروب الحياة دون خوف.. بعد أن أيقنت أن الله سبحانه رؤوف بي.. وأن عمر واحد فقط لا يكفي لقضائه في شكره.