د. جاسر الحربش
أعتقد - وهذا رأي شخصي قابل للتعديل - أن ما نردده منذ مئات السنين أن اللغة العربية محفوظة بالقرآن الكريم يعني في الحقيقة أنها محفوظة كلغة عبادة بعناية الله. حفظ اللغة كناقل حضارة وعلم وفنون وفكر مهمة إنسانية، يتحمل أهلها المسؤولية. قبل أسابيع شاهدت نقلاً بالصوت والصورة احتفالات التخرج في أكبر جامعة سعودية. كان عرضًا جميلاً للفرح بتخرج وتهنئة دفعات جديدة من الجامعيين، ما عدا أن النقص المعيب فيه كان إبراز اسم الجامعة في الخلفية بأضواء لامعة، وبثلاثة أحرف إنجليزية كبيرة، يستطيع من شاهد عرض الحفل تذكرها. لم أستطع هضم المفارقة؛ فالجامعة والاحتفال والخريجون والمحتفلون بهم يمثلون القلب والرمز للانتماء بشقيه الديني والوطني. عللت النفس بربما أن المنظم للفعاليات كان شركة أجنبية، لا يوجد بين موظفيها من يعرف أو حتى يقدر اللغة العربية.
التسارع في تواري اللغة العربية التدريجي عندنا عن الأسماع والأنظار واضح في لغة التخاطب بين الأطفال في البيوت، وفي لوحات الشوارع التجارية، وفي استعلامات ومنصات استقبال الزوار والضيوف في الفنادق والشركات الكبرى.. وأهم من ذلك في خلط الكفاءات التكنوقراطية السعودية أحاديثهم بمصطلحات أجنبية. أكثر المتكرر سماجة للتخلي الطوعي عن اللغة العربية نسمعه يوميًّا في الفضائيات المحسوبة علينا أثناء المقابلات الاقتصادية والسياسية مع المحسوبين على هذه المجالات. يدهشني التمكن الخطابي باللغة الإنجليزية عند من يمثلوننا من الكفاءات النسائية والذكورية في المحافل الدولية، ثم يصدمني التلعثم وضعف الأداء اللغوي باللغة العربية عند الكفاءات نفسها بالمقابلات المحلية!
نحن هنا في عرين الدفاع عن اللغة العربية نمرُّ بمرحلة حراك انفتاحي للحاق بالعالم المتقدم، حراك يشمل الاقتصاد والسياحة والتعليم العالي وتحديث البنيات الأساسية تقريبًا في كل شيء. الناقص في الخطة هو عدم وضع اللغة العربية كعنوان رئيسي للتحديث، وأعني نقل القدرات اللغوية من إمكانياتها المحصورة في التراث وفي القديم إلى القدرات التعبيرية عن التطور والتحديث، بما يشمل المفردة والمصطلح والتطويع لتوضيح الجديد. الاستعانة بلغة أجنبية لشرح ما تقصده داخل بيئتك اللغوية وأنت تتحدث لقومك يعني أنك تركت لغتك خلفك عاجزة عن اللحاق بالتطور العلمي والتقني والاقتصادي الذي ينوي وطنك تحقيقه، ولكن ما يتوارى يضمر ويموت. الشعوب والأمم لا تنقرض بموت كل أفرادها، وإنما بانقراض لغتهم رغم بقاء الكثير من البشر. لم تعد توجد أمة إغريقية وإنما يونانيون، ولا رومانية وإنما طليان، ولا سنسكريتية هندية جامعة وإنما إنجليزية هندية.. ولكن بالمقابل بقيت الصين بلغتها المندرين، وبقيت اليابانية والروسية، وتم إحياء العبرية علميًّا وأدبيًّا بعد أن كادت تموت؛ والهدف هو إعطاء المحتل أهم هوية جامعة.
بالتأكيد اللغة العربية الحالية، بقواعدها ونحوها وصرفها وتعقيداتها الإعرابية، تحتاج إلى نخل وتجديد وحذف وإضافة؛ لتستطيع استيعاب التطور العلمي والفكري المتسارع.. وهذه مهمة الجامعات في أقسامها الأدبية والألسنية. رغم صعوبة المهمة يتوجب للوصول إلى التحديث المنشود الاهتمام أولاً ببقاء الموجود المفيد، وهو كثير وغني بالمفردات والمصطلحات المتوافرة القابلة للتطويع والتطوير، وإلا توارت العربية، وتحولت إلى لغة عبادة فقط، وحلت محلها الإنجليزية في كل شؤون الحياة الأخرى!