د.عبدالله بن موسى الطاير
الذي يريد أن يفهم ويكتب ما فهمه كمن يحمل أقلامه ودفتر أوراقه ليكتب على طاولة في منتصف ناد ليلي صاخب. حفلة انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي ما زالت تثير ضجيجاً يتعذر معه استيضاح وجهة الأحداث ناهيك عن تقديم قراءة موضوعية لها.
تزيد شخصية الرئيس ترامب، التي يصعب التكهن بما تفعل، من صعوبة القراءة وتعذّر التحليل. وبذلك يكون القرار الصادر عنه أياً كانت قوته محل شك والثبات عليه غير مضمون.
سياق الأحداث وخلفيات الفاعلين فيها يمكن أن يساعد في استجلاء بعض الوجوه المقنّعة؛ فمشاركة قائمة من الصقور أمثال وزير الخارجية المعيّن حديثاً مايك بومبيو، وأحد رموز المحافظين الجدد جون بولتون إلى جوار الرئيس ترامب في هذه الحفلة يصرف القرار من كونه شعبوياً صرفاً، يدخل ضمن الوفاء بالوعد الانتخابي، إلى كونه ضمن حزمة قرارات تُدخل مشروع القرن الأمريكي الجديد حيز التنفيذ.
انفراج الأزمة مع كوريا الشمالية، وإحراج الروس في الشرق الأوسط، وضرب آخر محاور الشر هي لا ريب عندي إجراءات تغذّي المشروع الأمريكي الذي يؤكّد هيمنة هذه القوة العظمى الوحيدة في العالم. الوجع الأوربي من الصفعة التي وجهها الرئيس ترامب لمصالحهم يؤيّد رغبة أمريكا في مهر هذا القرن بخاتمها؛ فالشركات الأوربية العابرة للقارات مجبرة على السمع والطاعة لواشنطن أكثر من سمعها وطاعتها لباريس ولندن وبرلين. هي تنتمي للمجموعة الأوربية ولكن دورة الاقتصاد والمال تمر عبر الولايات المتحدة ولا تريد أي من تلك الشركات سواء إيرباص أو مرسيدس أو توتال أن تكون وزارتا العدل والخزانة الأمريكيتين خصماً لها.
مطلب أمريكا واضح؛ مصالح أمريكا أولاً، وكل العالم يأتي تالياً. وبذلك فإن الفسحة التي سمح بها الرئيس باراك أوباما لأوروبا في المفاوضات النووية لم تعد مطروحة في عهد ترامب، وقد أعلن بوضوح أن على إيران أن تتفاوض مع أمريكا ووحدها، وهي التي تضع الشروط، وهي التي تجني المكاسب وما بقي من فتات فإنه من نصيب أوربا. فرنسا المعروفة بأنها رأس الحربة في الموقف الأوربي المناهض للسياسات الأمريكية تشن هجوماً مضاداً للحفاظ على مصالح الشركات الأوروبية وترفض أن تتصرف أوربا كخادم لمصالح واشنطن، بل وتذهب إلى اقتراح إنشاء «هيئة أوروبية تتمتع بذات السلطات التي تتمتع بها وزارة العدل أو وزارة الخزانة الأمريكيتين، لفرض عقوبات على الشركات الأمريكية والأجنبية بسبب ممارستها التجارية. وقد تنجح أوربا في التأسيس، ولكنها لا تملك الأدوات الأمريكية في التنفيذ؛ لأن دورة الاقتصاد والمال تبدأ من أمريكا وفيها تنتهي، وأي تحرك لتغيير هذه المعادلة سيكون بمثابة إعلان حرب على الولايات المتحدة الأمريكية.
إيران مجرد ورقة ضمن أوراق أخرى لم تفرج عنها أمريكا بعد، وهي جميعها تؤكد السيادة الأمريكية والتفرّد بالقرار في النظام العالمي الجديد. الرئيس الأمريكي وقبل مرور 24 ساعة على قراره بفك الارتباط بالاتفاقية النووية مع إيران صرح بأن على إيران أن تتفاوض مع أمريكا، وحينها لا نستبعد لقاء بين خامنئي وترامب على غرار قمة سنغافورة بين الأخير وكم جونغ أون. حينها سيقول الرئيس ترامب بأنه جاء بما لم يستطعه الأوائل، وستعتبر إيران أن ذلك من باب التقية أو الواقعية السياسية، وستقلب لأوروبا ظهر المجن.
قبل أية صفقة من هذا القبيل لا يمكن أن ينسى فريق الرئيس ترامب من المحافظين الجدد تأمين إسرائيل، وعندها سيختفي مفهوم المقاومة الذي دجنته ولاية الفقيه لمثل هذه الصفقة. قد يقول سائل: ماذا عن الدول العربية وأصدقاء أمريكا وما يُعرف بمحور الاعتدال؟ فأقول قبل أن أتوقف عن الكلام بأنها ليست أعز على قلب أمريكا من أخوة العقيدة والدم في أوربا، وأي تحول مدني ديمقراطي في إيران سيعيد تنصيبها شرطياً أمريكياً في المنطقة وعازلاً بين مصالح أمريكا وأي تهديد محتمل من روسيا والصين وتركيا.