لبنى الخميس
اغمض عينيك للحظة.. وتخيل ما هو صوت مدينتك.. لونها.. ورائحتها؟ هل تعتقد أنها امرأة أم رجل؟ كيف سيبدو شكلها؟ وعمرها؟ وما هو عملها ومصدر رزقها؟ ما هي سمات شخصيتها ومزاجها؟ هل هي هادئة ومسالمة؟ أم غاضبة ومحتجة؟ أنيقة تهتم بأدق التفاصيل؟ أم عشوائية لا تلقي لمظهرها بالاً؟ طموحة ومتجدّدة.. أم يائسة أوّلت الحياة ظهرها؟
التعرف على خصال وصفات شخص جالس أمامك على طاولة العشاء قد تتكشف من خلال عدة أمور منها.. ثيابه، طريقة حديثه، نوع عطره، حس فكاهته، وطريقة تحليله للأمور! لكن كيف يمكنك الكشف عن شخصية مدينة عمرها ألف عام ويقطنها 7 ملايين شخص؟ هل ستُفشي لك البنايات والشوارع والجسور عن خفايا شخصيتها؟ أم ستهمس لك المتاحف والمعارض والأسواق القديمة عن عمرها الحقيقي؟
هل هذه الأسئلة هي محاولاتنا كبشر لفهم المدن؟ فك شفراتها؟ ولإكساب عناصرها الصامتة من شوارع أزفلتية.. وبنايات أسمنتية.. ملامح إنسانية تمكننا من التفاعل معها بحواسنا الحية؟
بقصد أو ربما دون قصد.. وهب نخبة من الفنانين والأدباء مساحة ساحرة من أعمالهم لتخليد تفاصيل مدن بعينها كما تراها عدسات كاميراتهم.. وصفحات رواياتهم.. وأنغام موسيقاهم.. ناقلين بإنتاجاتهم الأدبية والفنية ما تكتنزه المدينة من قصص وأحاسيس وذكريات.. وما تعانيه من مآسٍ وصراعات.. تشعر وأنت تلامس أعمالهم أنهم يتحدثون عن حبيب عرفوه لا مدينة سكنوها.
فهذا المخرج الأمريكي الحائز على 4 جوائز أوسكار ودي آلن يضيق به العالم بما رحب وتتسع له شوارع ومقاهٍ وحدائق نيويورك.. فيختارها مسرحاً دون غيرها من دون العالم لمعظم أفلامه التي تجاوزت 65 فيلماً فاز عن بعضها بأربع جوائز أبرزها مانتهان.. حكايات نيويورك.. وكافيه سوسايتي.. وثق فيها بعدسته أجمل تفاصيلها.. من مقاهٍ.. وشوارع.. وقصص.
وهذا مهندس الكلمة الأمير بدر بن عبدالمحسن.. يخلد جبال وكثبان نجد بريشته حيناً وفي قصائده الجزلة أحياناً أخرى ويختار لها أجمل العناوين.. أنشد البحار.. حدثينا يا روابي نجد.. ووجه الرياض..
أما فيكتور هوغو فخط في باريس عاصمة النور وملهمة الأدباء.. درة أعماله رواية البؤساء وأحدب نوتردام التي تدور أبرز أحداثها في الكتدرائية الباريسية الشهيرة التي تحولت بعد أكثر من 150 عاماً إلى فيلم شهير للرسوم المتحركة من إنتاج استديوهات ديزني. باريس احتفت بأديبها الموهوب فسمت شارعاً ومحطة مترو باسمه، وحولت محل إقامته إلى متحف يضم العديد من المخطوطات واللوحات والصور الفوتوغرافية لهوغو أديب الفقراء والمضطهدين.
أما نزار قباني فتخطت علاقته بأقدم عاصمة في التاريخ دمشق علاقة المدن بساكنيها لتتحول إلى معشوقة احتار كيف يغازلها.. فتارة يراها جنة على الأرض.. وتارة يراها قارورة عطر.. ودائماً ما يراها حبيبة وقريبة.. فبادلته الحب وسمت أحد شوارعه باسمه، ما جعله يعبر بجذل يكشف عمق علاقتهما قائلاً: «هو هدية العمر، وهو أجمل بيت امتلكه على تراب الجنّة، تذكروا أنني كنت يومًا ولدًا من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته، وقطفت أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره». ويحاول بعد ذلك أن يجيب عن سؤال افتراضي استفز حبه لمسقط رأسه: لم لا تنسى دمشق بعد كل فرقتك الطويلة معها لتلبية عملك كدبلوماسي في لندن ومدريد والصين؟ فيقول في مقطع من «القصيدة الدمشقية»:
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي
فكيف أوضح، هل في العشق إيضاح؟
خمسون عاماً وأجزائي مبعثرة
فوق المحيط وما في الأفق مصباح
في المقال القادم نتحدث عن التفاصيل المرئية والسمعية والحسية التي تشكل شخصيات المدن وهوياتها.