في هذه المجموعة يتحدث فيصل عن إمكانيات الوصول أو اللا وصول إن صح الأمر، فما يجري في الداخل لا علاقة له بأحد حتى وإن كان الشخص نفسه، إنها الحياة السرية في الباطن أو الحياة التي تجري في عالمها الخاص التخيلي. تتضمن المجموعة قصصاً تبحث عن جوهر الأنا، إشكالية الوجود، الذاكرة وعلاقتها بالمحيط الداخلي والخارجي للإنسان، الزمن وطريقته في المرور أو التوقف، العودة، الموت، الفناء، التجرد. بانسيابية رائعة وخلاقة، يفتح فيصل بوابات جحيم الأسئلة، إذ لا يمكنك أن تمر بأي قصة دون أن تزدحم رأسك بالأفكار، بالحالات النفسية للشخصيات، بالاندثار في عوالمهم الضخمة، وبالضآلة أمام مشكلات الإنسان الآخر.
وعلى سبيل المثال:
في قصة «هزاع الذي أنجب والده»: فكرة الزمن الذي يعيد نفسه، كما لو أن ما تنتهي منه، تبدأ بفعله مرة أخرى على الطرف المقابل، في اختلاف محوري، ثاقب للزمن بأسلوب شعري خالص. قصة توضح مدى التأثر الكبير بنظرية العود الأبدي لنيتشه، وانطولوجيا الكائن والوجود.
وفي قصة «أوحى الإنسان لنفسه»: الصمت في مواجهة جماليات الفن وإشكالياته، كيف من الممكن أن يُفهم العالم من خلال التمعن في جدران المتاحف؟ هل الماضي حقاً ماض؟ يقول فيصل بأنه لا بد من فهم العالم بهذه الطريقة، بالفن، دائماً وأبداً، إذ لا بد من العمق في مواجهة الفراغ، بدلاً من التجسيد الصريح للفشل والجهل في الفهم والانتماء.
في قصة «سأل نفسه سؤالاً»: عبثية الذاكرة والأسئلة، إرجاع الأشياء إلى أماكنها الصحيحة، الترتيب، التعاقب، ما الذي يمكن أن يكون أكثر حيرة من المشاعر التي تخالجك فجأة؟ أو بصيغة أخرى، من أين تأتي المشاعر؟ من أين يأتي هذا التخبط في الذاكرة؟ هذا التكثف في لحظة عما سواها؟ هل يمكن الاعتماد على الذاكرة كلياً؟ من يؤكد أن ما يحدث هو فقط ما نراه؟
في قصة «تعرف أمي الطريق جيداً»: يتضح فيها التركيز على العلاقات الأسرية، الفقد، الغياب، الحضور، حيث يقول: كانت أمنا العجوز تزيف الواقع لتحمينا من قسوة الفقد، لا أستطيع أن أُحملها كامل المسؤولية، فقد كنا جميعاً متواطئين بالجريمة. أردنا أن نفلت أنفسنا ولو كان الثمن هو الزيف، ومن شابه أمه فما ظلم.
في قصة «الشاب الذي يقف إزاء إشارة المرور»: أقتبس منها «كان شاباً يقف بدشداشته المكوية، ونسقته المثبتة بالنشا، وذقنه اللامع وشنبه المحدد، إنه أحد أولئك الذين لا يمكن أن تميزهم وسط الحشود، غير أن الوحدة من شأنها أن تضفي تميزاً فائقاً على معتنقها، مهما كان رتيباً في مظهره». هل نتشابه فعلاً إلى هذه الدرجة؟
في قصة «لأنه حرك عينيه فحسب»: لماذا يحدد أحدهم حياة شخص آخر، وكأنه اكتشف فجأة سر الخلق؟ لماذا تنتهي حياة أحدهم قبل أن تبدأ حتى؟
في قصة «لا تقل لهم إنه قلمي»: هل من يقبعون في الهامش، هم حقاً كذلك؟
في قصة «مأساة الدكتور أسامة الراس»: إنه لسؤال مقلق، كيف تُعرف نفسك للآخرين؟ بل كيف تجيب على السؤال المعتاد، من أنت؟
في قصة «لقد قتل نفسه وهرب»: لطالما فقد الجميع زمام الأمور في لحظة ما، لطالما تحولت رواية حياتهم لشيء آخر تماماً، الكتاب الذي يدل عليهم لا يعرفونه ولا يكادون يميزون أبطاله، وحقيقة الأمر كلنا نبدو عاديين جداً أمام الرب، لا شيء مختلف، إننا متشابهون حد التخمة.
في قصة «لن يتأخر أبوك كثيراً»: هل المشكلة بالمراقبة، أم أنها بوجود من يراقب؟ هل هو حقيقيٌ ما يفعله المرء طوال الوقت، حينما يبحث عن أشياء وهمية حتى لا ينظر للحقيقة الصارمة أمامه؟
في قصة «ثمن العالم عشرون فلساً»: لقد أضحى متورطاً فجأة بكل هذا، ولكن ما هذا الذي تورط به؟ كلمات، كلمات تحمل في داخلها دمار العالم.
في قصة «نسترجع أحلامنا في تسكعاتنا الأخيرة»: ما هي أقدم ذكرى تتذكرها أساساً؟ ما الذي نحاول أن ننساه؟ على كل حال، إنها الذاكرة التي تضحى رؤية، والجين المسافر أبداً عبر الأجيال. إنهم الآباء وأزمنتهم السالفة، ودودة الطاقة الكونية التي لا تنتهي.
أبناء الأزمنة الأخيرة هي المجموعة القصصية التي تتتابع في حدتها نحو تشريح الداخل مقارنة بتشريح الآخر.
** **
- أحمد صالح