كنّا صغاراً عندما نرى إنتاج الغرب من التكنولوجيا فنُكبر ذلك حتى نعتقد أن كل هذا نتاج ثقافة ممتدة الجذور يُضرب بها المثل وهي كذلك ! ولكن يعوزها التهذيب الأخلاقي بكل مقاييسه هكذا علمنا فيما بعد ! كان الاستعمار من أسوأ الحقب التي مرت على الدول العربية ! ولكن ذلك المستعمر مهما بلغت به الأيمان المغلظة أنّ نواياه طيبة فقطعاً لا يمكن تصديقه لذلك من حيله الماكره أن يكون التعليم والثقافة في معزل عن واقعه الحقيقي ! أو قل هو من يسيّره كيف يشاء !
لأنه يعلم أن وعي الشعوب يمر عبر الثقافة بكل أنساقها ! ثم أصبحت مسألة الاحتلال تنافي الأعراف الدولية وتذكي روح العداوة أكثر ! كما يريدون بالطبع ! ناهيك عن الكلفة البشرية والاقتصادية ، كل ذلك جعلهم يلتفتون إلى القوة الناعمة والخبث السياسي في استدراج المعارضة التي يضربونها بالسلطة فيُقضى عليهما معاً وقد أحرقوا الحرث والنسل وبيدي لا بيد عمرو ، هكذا المشهد في الربيع العربي ولكن أين المثقف والأديب من كل ذلك ؟! لم يكن الشعر حاضراً في المشهد على تلك المآسي التي يندى لها الجبين وإن كان فبخجل بيّن وحتى الرواية كان حضورها على استحياء غث كالمقالة والدراما التلفزيونية !
في نهاية حقبة الاستعمار كانت الدول في شلل نصفي إذا استثنينا مصر ربما في ذلك الزمن كنهوض نوعي في مجال الثقافة بشكل عام ! انحسار مياه الربيع العربي في الدول المعنيّة سيجعل من الثقافة مسألة معقدة سسيولوجياً ولربما سنظل بضع سنوات حتى تستقر الأحوال حين تضع الحرب أوزارها وهنا لا بد أن تخطر أسئلة مهمة لمستقبل تلك الدول الثقافي :
ماذا سيكون شكل الثقافة والأدب بعد الربيع وتأثيراته الجانبية ؟ وهل ستكون حقبة جديدة يتفوق فيها المشهد الثقافي ؟! وهل هناك بروز لفن أو شخصيات جديدة ؟! أم سيستمر الحال في ركود دائم من جراء ما خلّفته الحروب ولك في تونس أنموذجٌ على ذلك ؟
في الغرب يتحدثون كثيراً عن زيف الحضارة وما يتمتعون به من اقتصاديات متميزة جعلتهم يُتخمون بالترف الزائد الذي يفضي إلى الاستهلاك المفرط لكل أنواع المحرمات والممنوعات ثم يقضي به ذلك إلى الكآبة والقلق المؤدي للانتحار وكل هذا إذا ربطناه بالواقع الاجتماعي المرير وما يعانيه الرجل الغربي في واقعه المأزوم من تفكك أسري وتسيب أخلاقي ينحدر به أحياناً إلى حياة بهيمية صِرفة ! وإذا رجعنا إلى ربيعنا الفوضوي والذي استهلك وقتاً ومالاً ورجالاً استغفر الله وبشراً ! نرى ضد ذلك كله فالفقر والعوز قد لا يولد ثقافة وأدباً كما نريد ولكن قد ننفرد عن الغرب بالقيمة الأخلاقية إذا استثنينا الأمن الذي يفضي إلى الاستقرار السياسي والذي بدوره يخرج من رحمه وضعاً اجتماعياً يعوّل عليه أن يكون نواة لمستقبل ثقافي وأدبي ومن ثم حراكاً اقتصادياً يدفع بالبلد إلى منطقة الأمان .
ولكن هناك قضايا هي كالشجا في الحلق وتؤسس لأزمات أخرى وهي القومية والطائفية وهذه إشكاليات بعيدة المدى تستغل في خلط الأوراق سياسياً مما يعقب الربيعَ خريفٌ ليس بأحسن منه نرى فيه حبائل الشيطان تُفرز لنا ثقافة وأدباً شعوبياً وطائفياً يعزز لروح الانقسام والتشرذم بينما الهوية الحقيقية للوطن ككل تتلاشى وتذوب في مياه الأولويات أو التصنيفات ولك في لبنان مثال قبل الحروب وبعدها وكيف أصبح وجه الثقافة فيها ؟ في فلسطين اختزلت الثقافة والأدب في كلمة واحدة وهي (المقاومة) وأمل العودة والاستقلال الذي يراود الفتى الفلسطيني نصف قرن فكان التوجه نحو الوطن غاية لخصها محمود درويش:
- عاد جميع الغزاة ، وولد الوطن من جديد !
إنها ثقافة وأدب الوطن وليست القومية أو الطائفية !!.
** **
- زياد السبيت