لم تعد كرة القدم مجرد لعبة يتشاغل بها الفتيان الصغار لتمضية الوقت والتسلية، أو فرجة لأولئك الفارغين العاطلين عن مهمات الحياة وجلائل الأمور؛ بل هي اليوم ثقافة وحضارة وهوية قومية. والواقع أنها مظهر فردي واجتماعي في آن واحد؛ فارتدادها على شخصية الفرد وذاته جلي من حيث كونها سبيلًا لغنم الثقة وتعزيزها، وإطلاق كامن المهارة الحركية والذهنية، وهي أيضًا مظهر جماعي ينمي المسؤولية الكلية ويوجه إلى ضرورة العمل بروح الفريق الواحد الذي تتقاصر عنه الذاتية المنفلتة أو الأنانية المنبوذة في أي سلوك ذي طابع جمعي منظم. وفكرة التكتيك والتكنيك في عالم المستديرة يحكي ضرورتين اثنتين لا يلغي أحدهما الآخر: العمل الجماعي الذي لا يعترف بالفردانية المحضة، والعبقرية الشخصية التي يتمايز بها النجوم عن زملائهم في الوقت ذاته الذي يدينون لهم بها. وكما تصنع الكرة الفريق الخارق والشخصية الفذة، فهي تخلق القدوة التي تعد ركنًا أساسًا لبناء الثقافة وتوجيه السلوك، ما يجعل من النجم/النجوم لوحات توعوية وإرشادية متنقلة.
وتعد التجربة الإسبانية نموذجًا حيًا يمكن التعويل عليه لفهم ثنائية الكرة/الثقافة؛ فاللعبة هناك استحالت ظاهرة كبرى من جهة تحطيمها للمعايير الكروية العالمية السائدة التي طالما اعتبرت النجاح في كرة القدم منوطًا بالتكوين البدني، بينما الإسبان يميلون غالبًا للبنية الضئيلة والقامة القصيرة. هذا التكسير للقواعد الكروية تمثّل في نيل المنتخب الإسباني لقبي كأس أمم أوروبا وكأس العالم في غضون عامين فقط (2008 و2010) بفضل عبقرية قصار القامة وضعاف البنية: تشابي وإنيستا وبويول وسيلبا وغيرهم.
والمتأمل لواقع الحال الكروي عندهم يدرك أن الرياضة - خاصة كرة القدم- ملأت الروح الإسبانية ثقة وإيمانًا بالذات، ولست أنسى عبارة المذيع الإسباني وهو يبث خبر نيل إسبانيا لكرة السلة لقب كأس العالم عام 2006 حين قال: «ها نحن لم نعد أقزام أوروبا» عاكسًا بذلك ما كان يجتاح الذات الإسبانية من شعور بالدونية والعجز أمام الجيران الأوروبيين. لقد تمكنت المستديرة من صناعة جيل لا يسخر من نفسه ولا يؤمن بثقافة الخور ولا يعترف بالقيود ولا المسلمات، بل يصوغ القواعد ويعيد تشكيلها.
لكن ما سبب وراء هذه النقلة وكيف كان الحال قبلها؟ لا شك أن إصلاح ثقافة الكرة في إسبانيا كان وراء هذه القفزة النوعية الهائلة، بعد أن كان التمثل لمصطلحات الحرب والاقتتال واقعًا مألوفًا تشعله الصحافة ويصطلي به الملعب والمدرجات من مثل: «الدفاع، الهجوم، المناورة، الثأر، الكتيبة، موقعة، معركة ... إلخ» وهذه التعبيرات دمغت اللعبة بطابع اشتباكي رسخ ثقافة الاصطدام والمواجهة ورغبة الانتقام والتغلب، وما حادثة الهندوراس والسلفادور إلا دليل على مدى تداخل سياق الحرب بسياق كرة القدم، حيث النصر الكروي نصر قومي والهزيمة ضرب من الإهانة والتحقير!
في إسبانيا، سادت هذه الثقافة زمنًا، حينما كان من الضروري التخندق في معسكرين كبيرين: المدريدي الذي يمثل إسبانيا في مركزيتها، والكاتالوني الذي يحمل لواء الدعوات القومية المعادية للمركزية الضاغطة، وكانت اللقاءات بين الفريقين أشبه بالمواجهة على جبهات القتال، وتنامى التعصب وعمت الفرقة، وكان الإعلام في الجهتين يغذي هذا الصراع ويتعهده، ونال حكام المباريات عنت كبير على صفحات الجرائد قبل النزول إلى صعيد النزال ناهيك عما يلاقون بعد انقضاء المهمة الصعبة. والناتج أن هذه الحرب المشؤومة عمقت الرجعية والتخلف في نفس الرياضي الإسباني، وأعاقت بشكل أو بآخر تطور الكرة الإسبانية فأخفق منتخبها في أكبر المحافل وأهمها. هذا هو الحال قبل مراجعة الذات ونبذ العصبية، فمؤسسا فريق ريال مدريد الأخوان كارلوس وخوان بادروس كاتالونيان في الأساس، وكرة القدم يجب أن تكون مظهرًا حضاريًا لا ميدانًا للعراك البدائي، والنصر والهزيمة ليست إلا مجازات لإضفاء طابع من الحماس والإثارة على اللعبة؛ هكذا كان تصحيح المسار.
حين تحضر اليوم في مدرجات الكامب نو في برشلونة أو البيرنابيو في مدريد وترى عشرات الآلاف من الحشود لمباراة الكلاسيكو؛ فستدرك حجم الوعي الذي وصلت إليه الرياضة في إسبانيا؛ فالصغار والكبار والرجال والنساء في هدوء لافت ورقي ظاهر، لا حرائق في المدرجات ولا صدامات ولا تشنجات، وإدارات الأندية هادئة منضبطة، واللاعب محترف تمامًا داخل الملعب وخارجه، وحتى الأصوات النشاز هنا وهناك لا تؤثّر ولا يؤبه بها. لقد أصبحت الأندية الإسبانية بيئات صحية حقيقية وواجهات اجتماعية وثقافية واقتصادية؛ مداخيلها الضخمة لا تعتمد على الشرفيين، أو رئيس النادي، ولا يتطفل أحد على عمل المدرب واختياراته، وليس هناك عبودية للاعبين ولا مركزية مطلقة في الأندية. ولأنها هيئات خالية من الأمراض، يكفي أن تستمع لتصريحات اللاعبين عند الفوز والخسارة: لا يتحدثون عن الحكام، لا يشتمون المنافسين، لا يوبخون المذيعين، يحتفلون بالفوز دون انشغال بالآخرين، ويتقبلون الخسارة بصدر رحب معترفين بتقصير ما ويعدون ببذل المزيد، ولا ينتابهم الإحباط ولا ينال منهم اليأس. ولو تتبعت خطاب الإعلام الرياضي في إسبانيا اليوم لألفيته متزنًا قد خلع عباءة القومية والعرقية وتبنى خطاب المدنية، وحين يمارس الإثارة الصحفية فهو مطمئن لوعي الجمهور الرياضي وإدراكه، وهناك غير قليل من الكتابات والمؤلفات الإسبانية التي تتحدث عن الكرة بوصفها ثقافة شاملة، وأن ما يكون داخل الملعب من سلوك رياضي هو تصوير لما هو خارجه والعكس. وحاليًا إسبانيا مرشح فوق العادة لنيل لقب كأس العالم في روسيا، بينما يظل غيرهم عرضة لانتكاسة كروية أخرى، رغم كل الدعم والتسهيلات؛ فالفرق بين المنظومتين كبير جدًا، لا من جهة الكوادر البشرية، بل العقلية الاحترافية تحديدًا.
** **
- صالح عيظة الزهراني