أخلاقياً التجاوز إلى الأفضل صفة راقية يتحلى بها الرزين الواثق بقدراته ووعيه. وهي ضرورة اجتماعية أكثر مما هي فردية! فالفرد «المتزمت» أي المتشبث بفكره وقيمه مهما تجاوزها الزمن، سيتخطاه الركب ويموت غريباً عن مجتمعه! أما «التراثوي» الذي يحاول عرقلة المسيرة أو جرها إلى الخلف وإحياء القِيَمْ المندثرة ولو بالسيف، فلن يجني سوى الخيبة وربما يسحقه قطار التطور.
كيف يتم التجاوز؟ هل يستطيع الفرد أو المجتمع تجاوز الماضي بمجرّد القرار؟ وهل أي فرد كان أو أي مجتمع كان: هو في كوكب منعزل بحيث يتجاوز تربيته ومنشأه وتاريخه في حال توفر القرار؟ ... وسأفترض جدلاً أن فرداً «حداثياً» ما يعيش في مجتمع في كوكب معزول تماماً عن بقية الكون، وبيده السلطة واتخذ القرار بالمضي قدماً، هل يستطيع حرق المراحل التطورية والوصول بمجتمعه إلى المراتب العليا لمجرّد الرغبة في ذلك؟
التطور ليس عملاً فردياً بالرغم من أن الرغبة به تتكون – افتراضا – لدى فرد واحد، ثم يسانده آخر ويتبعه ثالث وهكذا ... حتى تكتمل الجوقة.. ثم تتبعها جوقة أخرى وتتوالى الجوقات وربما تلتحم مع بعضها أو تتنافر وتنقسم، ولكن تبقى المحصلة أن التطور عمل جماعي أو اجتماعي، فلا تستطيع أنت كفرد أن تتجاوز أو تتطور لوحدك! .. كما أن المجتمع لا يمكن أن يكون معزولا عن التطور البشري العام، وكل ذلك يجري ضمن صراع دام بين حداثة وتراثوية!
إذن التطور ليس مرهوناً بالقرار وحده، ولكن لا يجوز التصوّر أن التقدم يجري بدون قرار من أحد! وحتمية التطور المكتشفة منذ سقراط أو ربما قبله هي حقيقة لا مناص منها، ولكنها محصلة للصراع بين التراثوية والحداثة وليست «حتمية في لوح محفوظ»، وخاصّةً إذا كان المجتمع رازحاً تحت نير الاستعمار الذي يموّل آلاف «التراثويين» ويمنحهم القداسة لإبقاء التخلف.
لا يجوز حتى التخيّل أن الصراع الفكري معزول عن الظلم أو الصراع العام على لقمة العيش، وإذا كان الاستعمار يستخدم الفتنة الفكرية كأفضل وسيلة للهيمنة وتمرير لصوصيته، فلا يجوز تحميل الطوائف أو المذاهب أو القوميات أو الأعراق وزرع جريمة استعمارية لم يرتكبوها! ولا يجوز أيضاً التفكير بأن إلغاء الطوائف أو المذاهب بقرار هو الحل، حتى لو تصورنا أن ذلك يخدم التطور!
الانتماء الديني أو المذهبي أوالقومي أو العرقي ليس خياراً! وهو من ضمن كينونة الإنسان طوال التاريخ، فهل يجوز الاعتقاد أنه بالإمكان إلغاء الإنسانية ثم إعادة تشكيلها من جديد؟ وإذا كان ذلك مستحيلاً، ما العمل إذن لإطلاق عجلة التطور دون إعاقة؟
الحل ببساطة يكمن في إعادة توظيف المكنونات الإنسانية كما هي في الأصل لخدمة التطور! أي أنه لا يهمني من أي قومية أو دين أو مذهب أو عرق أنت، إنما يهمني أنك مع التطور والازدهار لكل البشر أم لا؟ وهل تعي أن دفع عجلة التطور لقوميتك أو لدينك أو لمذهبك أو لعرقك - وبالمنهج الذي تراه مناسباَ – هو رافد من روافد التطور الإنساني العام؟ وأنه لا يحق لك أن تطالب أي فرد كان بإلغاء انتمائه؟ وأن إسقاط الطائفية السياسية ليس إسقاطاً للدين أو المذهب أوالقومية أو العرق، إنما هو إسقاط «للتراثوية» التي تخدم عن عمد مصلحة الاستعمار والاستبداد، والتي تعيث فساداً في كل قومية أو دين أوحتى دول متقدمة وأخرى نامية؟
** **
- د. عادل العلي