حين كان الدكتور أنطونيو فرنانديث-بورتاس منهمكًا يشرح لي معنى الإعذار (الختان)، خُيل إلي أني مسيحي وهو مسلم؛ فقد أبدى من الحماسة والعناية والتوفر على التفصيلات الدقيقة ما يغري بالإصغاء ويبعث على التتبع، وهو يسبغ على هذا التقليد الديني غير قليل من الهالة والقيمة والأهمية. والمفاجأة حقًا وقت أخبرني بأنه قام بختان ابنه منتصرًا على ممانعة زوجته الإيطالية التي كانت في الأصل طالبة من طالباته، فهو يرى من الضروري إخضاع الصغار لذلك وأنه مقتنع به تمام القناعة، وقد ترك لامرأته خيارًا أقل أهمية بالنسبة إليه وهو تسمية الابن، فمنحته اسمًا مسيحيًا.
ثم مررنا بأبيات من نقوش قصر الحمراء العريق، وطوفنا في دواوين شعرائها، وتراءت هنالك لوحات شعرية تتوالد على جدران القصر وتغص بها تلك الدواوين، تتحدث عن الطهارة والسقيا، وما إلى ذلك مما يتصل بفتنة الماء الأبدية. وهنا اعترضتنا عبارة «وضوء» التي لم يكن يخفى على الأستاذ الكبير مقابلها الدقيق بالإسبانية، لكني ذهلت حين اندفع يصور لي تفاصيل الوضوء وترتيبه وموالاته وكأنه يعلمني إياه تعليمًا، خاصة بعض التفاصيل التي تقتضي تأملًا وملاحظة كاستدارة الإبهام من خلف الأذن روحة وجيئة، وتخليل الأصابع ليشمل الماء ما بينها على التأكيد، وانتهى قائلًا إنه يحرص عليه كل مرة يدخل فيها الخلاء. عند هذا الحد بدا فضولي أكبر ولاح سؤال كبير: «هل أنت مسلم؟» وما كاد يتم حتى بادرتني الإجابة بالنفي وكأنه استشرف سؤالي قبل مجيئه: «لا»، لكنها لم تشبع فضولي، ففطن الصديق الغرناطي إلى ضرورة بسطها بما يزيح عني كثافة الضبابية من هذه الزيارة التي بمقدار ما شتتت لبس صاحبي، أوسعتني أنا عجبًا وحيرة.
لم يكن فرنانديث-بورتاس مسلمًا، هكذا فهمت منه، لكنه واثق أنه من نسل الموريسكيين الذين كانوا مسلمين يومًا ما واضطرتهم الكنيسة إلى التنصر، وتعقبتهم في أدق تفاصيل حياتهم. يقول: أما لاحظت آخر اسمي «بورتاس» (وتعني بالعربية «أبواب»)؟ لقد كان سلفي نجارًا، ومن المعروف أن الموريسكيين حين خسروا ممتلكاتهم لصالح المسيحيين ببيع «قسري» أو استيلاء أو ما شابه، لجأوا للعمل في صناعات حرفية نسبوا إليها كما نسب بعضهم الآخر للمكان الذي يعمل به من قرية أو ضيعة، أو ألحق باسم سيد الخدمة على طريقة النظام الإقطاعي المعروف. أيقنت أن أستاذي متشبث بماضيه العربي تشبث اسمه به، وأن المسألة هوية وتجذر أولًا وقبل كل شيء.
وأدركت أيضًا سر العظمة في الاستعراب الإسباني على قصر عمره مقارنة بغيره، واستوعبت سبب الحمية الكبيرة للثقافة العربية والإسلامية، وشدة التعلق بها والتفاني في خدمتها. لقد رأوا أن امتدادهم في التاريخ يتجه بهم نحو الشرق العربي والمسلم، وأن انتماءهم للثقافة الإسبانية المتمثلة في الكنيسة الكاثوليكية ومملكة قشتالة ميتة تمامًا، بل إنها لا تمثل لهم أكثر من وصمة يحاولون الانفكاك منها باتجاه أصولهم الأندلسية التي تشعرهم بالفخر وتملؤهم بالأمل. تخيل مشقة السيد فرنانديث-بورتاس وهو يتنقل ما بين زوايا الحمراء أو مسجد قرطبة، يقف وينثني ويصعد ويهبط متلمسًا أدق التفاصيل رغم إعاقته!
ولقد عاينت في منزله مخططات فريدة قام بها بنفسه بالمسطرة والفرجار وقلم الرصاص وسائر أدوات الهندسة، يرسم زوايا دقيقة ويصور النوافير والحيطان والرياض في الحمراء وغيرها بدقة مهندس معماري وبراعة فنان مرهف، كاشفًا عن خفايا العمارة الأندلسية وجمالية الفن الإسلامي. هكذا تصرمت سنينه لا يكل ولا يمل، والأمر أعمق بكثير من مجرد التخصص، وها قد عرفناه، أما الإسلام واعتناقه له فلا أرجحه- رغم انجذابه الأكيد إليه- أما السبب فظاهر بين؛ فالإسلام الذي يمثله أهله اليوم لا يغري أبدًا باعتناقه!
** **
- صالح عيظة الزهراني