شرفت في مرحلتي الماجستير والدكتوراه بأن كنت أحد تلاميذ الأستاذ الدكتور أبي أوس إبراهيم بن سليمان الشمسان، أستاذ اللغة والنحو والصرف بجامعة الملك سعود.
وازددت شرفًا حين توشَّحَت رسالتاي كلتاهما باسمه؛ إذ كان أحد أعضاء لجنة المناقشة فيهما.
ولا شك أن قربي من هذا العالم الجليل العربي الأصيل قد أتاح لي التعرف على بعض صفاته الشخصية، ومنحني الفرصة لأنهل من معين علمه العذب، وأقتبس من سنا فكره ما يضيء لي الدرب.
ولست في هذا المقام بصدد الحديث عن مكانته العلمية، ومنزلته العليَّة في خدمة اللغة العربية، فجهوده ظاهرة ومشاهدة، ومؤلفاته على ذلك شاهدة. ولكنني سأتحدث عن بعض ما تميزت به روحه الجميلة من أخلاق سامية، وصفات نبيلة، يدركها كل من يتعامل معه.
لم يكن أبو أوس الشمسان-حفظه الله- أستاذًا في علوم العربية فحسب؛ بل كان قبل ذلك أستاذًا في الخلق النبيل والأدب الرفيع، يبذل من وقته وجهده في سبيل العلم كل ما يستطيع، يقابل الناس بلطف وابتسامة، وتواضع يوجب محبته واحترامه. وقد كنت أتصل به كلما استوقفتني مسألة، فلا يتبرَّم من كثرة الاتصالات وتعدد الأسئلة، ولم تزل ذكرى محاضراته آسرة، وسيرة مناقشاته عاطرة.
يتميز أبو أوس بالفطنة والذكاء، والأمانة والصدق والوفاء، وكثيرًا ما كان يذكر أساتذته فيغدق عليهم بعبارات المدح والثناء، وتتجلى في مؤلفاته وأبحاثه الدقة والعمق والاستقصاء، ولديه طول نفس في المناقشة وقبول تعدد الآراء، ولا يمنعه ما يكون في بعض المسائل من الاختلاف أن يقول رأيه بعدل وثقةٍ وإنصاف.
ومما يحسب لأبي أوس الشمسان حُبُّه للعربيّة واعتزازه بها، وإجلاله لعلمائها وروَّادها، وتقديره لجهودهم، وإشادته بمؤلفاتهم. ولم يكن اعترافه بفضل المتقدمين مانعًا من تقدير جهود علماء اللغة المحدثين؛ بل كان حريصًا على الجمع والتوفيق، داعيًا لمزيد من التأمل والنظر والتدقيق، ملتزمًا الهدوء والتجرد في المناقشة والتعليق.
عرفته عطوفًا حنونًا قريبًا من طلابه، محفزًا لهم، يعاملهم كما يعامل أبناءه، ويرغَّبهم في طلب العلم والبحث والتحصيل، وقد كان لي موقفان معه تتجلى فيهما أبوَّته:
فالأول: كان في يوم مناقشتي لرسالة الماجستير في اليوم السادس من المحرم من عام 1429هـ؛ إذ فاجأني وهو داخل لقاعة المناقشة بإعطائي مظروفًا مغلقًا، فأخذته ووضعته على الطاولة ولم أفتحه؛ لأنني كنت مشغولًا بالتهيؤ للمناقشة، ولما خرجت اللجنة للتشاور دفعني الفضول لمعرفة ما بداخله، فلما فتحته فإذا فيه بطاقة تهنئة بمناسبة حصولي على درجة الماجستير!. لقد كانت تلك الورقة وما بها من كلمات بمثابة المكافأة التي كنت أنتظرها، فقد أنستني تعب البحث والدراسة وأشعرتني بمزيد من الفخر والثقة والطمأنينة، وأزالت عني ثقل الترقب الذي يسبق النطق بالحكم على الرسالة.
وأما الثاني: فكان في مرحلة الدكتوراه؛ إذ كانت محاضراتنا يومًا واحدًا في الأسبوع وكنت آتي من مدينة جدة في الصباح وأعود في المساء بعد الانتهاء من المحاضرات، وكنت أستأجر سيارةً من المطار أستقلها إلى الجامعة في كل مرة، ومن ثمَّ أعود بها إلى المطار بعد انتهاء المحاضرات، وفي إحدى المرات كانت محاضرتنا الأخيرة عنده، وخرجنا من القاعة وكنت أسير معه وأناقشه في مسألة، ولما انتهينا وهممنا بالتفرق- وكان يعلم أنني ذاهب إلى المطار مباشرة- عرض عليَّ أن يقوم بإيصالي إلى المطار! وألحَّ في ذلك، ولم يفارقني حتى تيقَّن أن معي سيَّارةً!.
لقد كان لهذا الموقف في نفسي بالغ الأثر، إذ خفف عنَّي كثيرًا مما أجده من عناء السفر.
هذان الموقفان -على بساطتهما- يتجلى فيهما ما يتمتع به أبو أوس-حفظه الله- من تواضع كبير، وثقةٍ في النفس منقطعة النظير، وفي الوقت نفسه يؤكدان قربه من طلابه وتقديره لهم، وحرصه عليهم، وهذه الصفات قلَّما نجدها في أستاذ، ولكنها شيم العلماء الأفذاذ.!
تلك هي بعضٌ من صفات أبي أوس العالم الإنسان، التي يطيب بذكرها اللسان، وتطرب لسماعها الآذان، ولو لا أعلم أنه زاهد في قبول عبارات المدح والثناء، لحررت المزيد وكتبت القصيد، فمنه تعلمت الوفاء، وله مني صادق الدعاء.
حفظ الله أستاذي القدير أبا أوس، وأطال في عمره على طاعته، ونفع بعلمه وعمله، وجعله ذخرًا للعربية، وجزاه عما قدَّم للغة القرآن خير الجزاء وأوفاه..
** **
د. بندر بن عبد الولي السلمي - أستاذ النحو والصرف المساعد بجامعة الملك عبد العزيز.