أخذْتُ القَلَم... وضعْتُه على الورقة... لكنني لم أكتب شيئًا، غيّرْتُ من جِلستي... حاولتُ ثانيةً... ومع هذا أخفقْتُ أيضًا، تركتُ القَلَم واستلقيْتُ أتأمّل سقف الدار، فأخَذَتْ ذاكرتي تسترجع تلك اللحظات التي كلّما تذكّرْتُها ران على قلبي حزن شديد، وزارتني عَبْرة لا تكاد تفارقني حتى أترك هذا الاسترجاع وأخوض في أمر غيره.
أحقًّا؟ لقد انقَضَتْ تلك المرحلة التي أسترجع ذكراها، وأستمتع بأدقّ تفصيلاتها!
نعم... انقَضَتْ، لكنها - عندي - لم تنقضِ
عن يميني أحمد وعن يساري سعد وأمامي راضي وجياب ومحمد وبقية الثلة الصالحة، وفي صدر المجلس يتربع كبيرنا، أبونا... وأستاذنا وحبيبنا (أبو أوس) بابتسامته التي تُدخِل السرور علينا، بحديثه الماتع عن السهيلي وابن الطراوة وابن جني وبالطبع عن سيبويه.
أتذكَّر جيّدًا أنني كنت أُحدِّث نفسي في تلك اللحظات: «من المؤسف أنَّ هذه اللحظات لا تدوم».
لقد تعلّمنا من أستاذنا الكثير من العلم، والكثير من الخُلُق، والكثير من الحكمة، فلم يكن أستاذنُا أستاذًا يؤدي وظيفة، كلّا، لقد كان أبًا رحيمًا، شفيًقا، ناصحًا، حريصًا، وكان أيضًا عالمًا موجِّهًا دقيق الملاحظة.
أما الدرس الأول فهو: «أنتم لستم طلابًا، أنتم باحثون» وقد أصرّ أستاذنا على هذه الصفة في وصف المجموعة، وهو ما جعل الثقة والألفة تسود بيننا منذ اللحظات الأولى.
لقد كنّا مع أستاذنا نستمع، ونناقش، ونُعطي آراء، وننتقد، ونقوِّم بعضنا، ولا يُنهي حديثنا إلا أذان المغرب! حتى قال أستاذنا يومًا: «هذا النقاش، وهذا الطَرْح متعة حقيقية».
وإذا كانت تلك اللحظات قد انقَضَتْ فإنَّ علاقتي بأستاذنا لم تنقضِ، بل لعلَّها قد بَدَأَتْ، فقد بادرْتُ أستاذنا فور انتهاء المرحلة التمهيدية وطلبْتُ منه أن يكون مرشدًا ومشرفًا، وكم كانت سعادتي يوم أن أبدى رضاه عني، ووافق على الإشراف، وأَسْمَعَني ما وعاه قلبي، وجعَلَني أشعر بمسؤولية كبيةر على عاتقي!
ثم جاء موضوع اختيار العنوان وقبوله، وهي معضلة كبيرة لدى كثير من الدارسين، وقد راوَدَني بعض الخوف ألّا يُقبل موضوعي، وهو موضوع كنت قد أَحضرْتُه معي من (عَدَن) لإيماني أنه موضوع جاد، ويستحق الدرس، لكن ماذا لو أن أستاذنا لا يرى ما أرى؟ يومَها عَرَضْتُ الموضوع على أستاذنا بإرساله إلى بريده الإلكتروني، فجاني ردُّه -حفظه الله- برضاه عن الموضوع، واستحسانه له بكلمة واحدة: (رائع)، وكان العنوان هو (ظاهرة التفرُّد بالرأي عند النحويين)، ورأى أستاذنا إزالة كلمة (ظاهرة) من العنوان، ثمَّ إرسال الموضوع إلى بريد لجنة اللغة والنحو، وكان رأيي إبقاء العنوان كما هو، غير أني نزلْتُ عن رأيي لرأي أستاذنا وغيَّرْتُ العنوان، ثم أرسلتُه إلى بريد اللجنة.
خطأ إلكتروني
عند إرسال العنوان غَفِلْتُ فأرسلْتُ الموضوع إلى بريد اللجنة العلمية بالعنوان الأول الذي طلب أستاذنا تغييره وهو (ظاهرة التفرد بالرأي عند النحويين)؛ ذلك أني عند اختيار الملف الـمُرفَق اخترْتُ الملف قبل التغيير! ولقد أصابني هَمٌّ لا يعلمُه إلّا الله، كيف لي ألّا أستجيبَ لطلب أستاذنا، وكيف أرسل العنوان بالصورة القديمة وقد أخبرتُه أني قد غيَّرْتُ العنوان؟ خِفْتُ أن يغضب أستاذنا! ولم يكن أمامي سوى الاتصال به؛ لإخباره، والاعتذار عن هذا الخطأ، ففعلْتُ، وقد كان هذا الموقف دَرْسًا آخر من دروس أستاذنا التي تعلمناها منه؛ إذ جاءني ردُّه بما سَرَّني: «لعل هذا هو الأفضل، وسنرى رأي اللجنة أيستصوبون رأيك بالعنوان كما هو أم يغيرونه كما رأيتُ أنا»، حمدْتُ الله كثيرًا يومها، وأكبرْتُ هذا العالم المتواضع الذي يستأنس بقول تلميذه، ولا يرى غضاضة في أن يساوي بين القولين أمام اللجنة العلمية.
درس ثانٍ في موضوع العنوان
قَبِلَتْ اللجنة العلمية العنوان بالصورة التي رآها أستاذنا -حفظه الله- وطَلَبَتْ بعض التغيير في عنوانات الفصول، ولقد وافَقَ قبول العنوان أنْ رزقَني الله مولودة كانتْ سببًا في غيابي عن الجامعة، وبعد أيام، جاءني بريد من أستاذنا يقول فيه: «هذا هو عنوانك الذي قبلتْه اللجنة، وهذه هي خطتك في صورتها النهائية، وكانت اللجنة قد طَلَبَتْ بعض التغيير، نُبْتُ عنك في إجرائه» وكان أستاذنا قد علم بحالي وبموضوع المولودة بعد أن سأل بعض الزملاء عن سبب غيابي، ولم يكتف أستاذنا بهذا، بل حرص على إكرام المولودة، وإهدائها ما يناسب وضعها.
ومن المواقف الطريفة أنني قابلتُ أستاذنا بعد أنْ شَرَعْتُ في كتابة التمهيد وأخبرْتُه أنني على وشك إكماله، ولعلّي أرسله إلى بريد أستاذنا بعد يوم أو يومين، وكان ظني أن هذه المدة كافية لإكمال ما تبقّى، ولكنها لم تكن كذلك، فلقد تجاوزْتُ اليومين، والثلاثة، والأسبوع، ولم أنتهِ، فأَخَذَ مني الحياء مأخذًا! وفي تلك الأثناء قابلْتُ صديقي العزيز د. صالح حسن الوجيه فقال:
-لقد قابلْتُ الدكتور أبا أوس، وسأل عنك.
- هل قال شيئًا؟
- نعم، قال: «قُلْ لمنصور يقرأ بانَتْ سعاد»
أدركْتُ مراد أستاذنا فضحكْتُ كثيرًا، في حين كان د. الوجيه في حال ذهول!
- لماذا تضحك؟
- هل فهمْتَ مراد أستاذنا؟
- نعم، لعل في القصيدة شيئًا ذا علاقة بموضوعك.
- لا، ليس هذا هو المراد، بل مراد أستاذنا من القصيدة بيت واحد، وهو قول كعب:
كانتْ مَواعيدُ عرقوبٍ لها مَثَلًا وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
عَكَفْتُ ليلتها على التمهيد حتى أنهيتُه قبيل الفجر، وبعد الفجر أرسلتُه إلى أستاذنا، ثم ذهبْتُ إلى الجامعة وقابلْتُه -حفظه الله- وما إنْ رآني حتى تبسّم، فاعتذرْتُ منه وأخبرته أني قد أرسلْتُ التمهيد إلى بريده بعد الفجر، فبادرني: «لقد قرأتُه وأرسلْتُه إلى بريدك»
سبحان الله، هذا درسٌ آخر في المبادرة إلى العمل، فلقد قرأ التمهيد، وعلّقَ عليه، وأَرسَلَه بعد ذلك!
أمّا توجيهاته العلميّة في أثناء كتابة البحث، وقراءته كلمة كلمة فهي هي! وكانت من النِعَم الكبرى المباركة حتى إذا استوى البحث على سوقه، وانتهى إلى الصورة التي قُدِّمتْ للمناقشة، أخبرني برضاه عن العمل، وتوصيته لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية بطبع الرسالة.
مَنْ يعرف أستاذنا حقَّ المعرفة يعرف أنَّ ما قيل فيه قليل في حقّه، وأنَّ فضله -حفظه الله ونَفَعَ به- علينا جميعًا عظيم، ومكانتُه في نفوسنا لا تدانيها مكانة، فطريقة تعامله مع أبنائه الطلاب، وحرصه عليهم، وزرع الثقة في نفوسهم، مما لا يوصف، حتى إنه ليسأل عن طلابه، وأوضاعهم، الصحية، والمالية، ويعرض عليهم مرافقته لهم إلى المشفى إنْ احتاجوا لذلك!
هذا هو أستاذنا الذي عَهِدْنا
والذي أحببنا.
جزى الله خيرًا أستاذنا أبا أوس، وجعل عمله في ميزان حسناته يوم القيامة، وجَعَلَنا ممن يبرُّ بأساتذته ومعلميه، وكل ذي فضل عليه.
** **
- د. منصور صالح الوليدي