(مَقَالٌ مُهْدَى إلى أخي أبي أوْسٍ في يوم تكريمه)
عرفت أخي أبا أوس من كثب، فعرفت فيه معاني الإنسانية بكلّ تجلّياتها، عرفت فيه الوفاء والإخلاص وكرم الأخلاق، عرفت فيه الخصال الرّاقية، والصّفات السّامية، عرفته عالما لغويًّا فذًّا، جليل القدر، خدم هذه اللّغة الشّريفة باحثًا ومدرِّسًا ومؤلِّفًا، أغنى المكتبة العربيّة بمؤلّفاته الجليلة، وأبحاثه الأصيلة، مدّ فيها جسورًا تصل الحاضر بالماضي، وتربط المعاصرة بالتّراث، فكانت مؤلّفاته منهل طلاب المعرفة ومقصد الباحثين عن العلم الأصيل، والفكر الرّصين؛ ولهذا كلّه ولغيره فإنّ أبا أوس حقيق بالتّكريم، وجدير بالاحتفاء.
وفي يوم تكريمه لا أجد في بضاعتي المزجاة ما يليق بمثل هذه القامّة الشّامخة، فنكصت أتلمس الماضي، فوجدت أنّي منذ أكثر من عشرين عامًّا عندما أصدر أستاذي أبو أوس كتابه (دروس في علم الصّرف)، كتبت مقالًا عنه، بعنوان: علم الصّرف هل من جديد؟ قراءة في كتاب دروس في علم الصّرف، نُشرت في صحيفة الرّياض بتاريخ28 /جمادى الآخرة/ 1418ه، فليسمح لي أخي أبو أوس أن أهديه هذا المقال في يوم تكريمه.
وإليكموه:
لا ريب أنّ علم الصّرف من أهمّ أبواب علم اللّغة، لأنّه ميزان العربية، وبه تعرف أصول كلام العرب كما يقول ابن جنّي (ت 392هـ) (المنصف 1/2). وقد دعا ابن عصفور (ت 669هـ) إلى تقديم علم الصّرف على غيره من علوم العربية، فقال: ((وقد كان ينبغي أن يقدم علم التّصريف على غيره من علوم العربية إذ هو معرفة ذوات الكلم في أنفسها من غير تركيب، ومعرفة الشّيء في نفسه قبل أن يتركّب ينبغي أن تكون مقدّمة على معرفة أحواله الّتي تكون له بعد التّركيب)) (الممتع 1/30).
ومع أهمية هذا العلم، فقد ظلّ التأليف فيه مخالطًا بالنّحو، ويعيش تحت ظلاله، ولم يصلنا مؤلّف مستقلّ في الصّرف إلّا في القرن الثّالث الهجري، وذلك عندما ألّف أبو عثمان المازني (ت 249هـ) كتابًا في التّصريف، وشرحه ابن جنّي، في كتابه (المنصف)، ثمّ توالت البحوث الصّرفيّة، ولكن معظمها جاء في فصول ملحقة بالكتب النّحويّة.
وفي عصرنا الحاضر ظهرت بحوث عديدة في علم الصّرف واستقلّت في كتب مفردة، مستفيدة من علم الأصوات الحديث، وكتاب الصّديق الكريم أبي أوس يأتي مساهمة مباركة في هذا المجال.
حدّد الدّكتور غرضه من تأليف كتابه في مقدّمته، إذ يقول: ((أتى هذا الكتاب نتيجة للحاجة الماسّة إليه، ليكون مرجعًا أوليًّا للطّلاب المتخصّصين بدرس اللّغة العربيّة، يمهد الطّريق لهم ليكتسبوا بعض المعرفة الصّرفيّة الّتي تهديهم إلى التّمكين من المهارات التّصريفيّة)) (المقدّمة 5).
فالغرض إذًا تعليميّ، والهدف تربوي، فقد أدرك الدّكتور الشّمسان خلال تدريسه لعلم الصّرف في جامعة الملك سعود – قسم اللّغة لعربيّة – لسنوات عدّة، أدرك مدى تعثّر الطّلبة في استيعاب هذا العلم، وتذمّرهم من دراسته، ومردّ ذلك إلى أنّ معظم الّذين ألّفوا في هذا العلم عالجوا مسائله وموضوعاته وكأنّها ظواهر معزولة بعضها عن بعض، ورتّبوها على مشابهة خارجيّة لفظيّة، لا على وحدة داخليّة معنويّة. فبدت موضوعاته مشتّتة لا ينظّمها نظام، ولا يربطها نسق معيّن.
ولهذا كلّه جاء الكتاب ليسدّ تلك الثّغرات المنهجيّة في تأليف الكتب الّتي توضع بين أيدي الطّلبة، فكان أهمّ ما يمتاز به منهجه المحكم وترتيبه المنسّق، إذ استطاع الدّكتور الشّمسان تبويب موضوعات كتابه خير تبويب، وترتيبها أحسن ترتيب، فكان بذلك منهجيًّا حقًّا في عرض مادّة كتابه عرضًا محكمًا، ضمّ فيه الأشباه إلى أشباهها والنّظائر إلى نظائرها، وحصر الموضوعات المتماثلة في باب واحد لا في أبواب متفرّقة، فبدأ بعد التّمهيد بالقضايا المشتركة بين الأفعال والأسماء، ومن ثمة انتقل إلى قضايا الفعل الصّرفيّة، وأتبعها بمباحث الاسم، ثمّ تحوّل إلى معالجة قضايا التّغيّرات الصّوتيّة والصّرفيّة.
وبهذا الصّنيع قدم الصّرف على أنّه نظام متكامل تتّصل أجزاؤه في اتّساق وانسجام، من أجل بلوغ الغاية الّتي وضعها نصب عينيه.
أمّا أسلوب الكتاب، فكان أسلوبًا تعليميًّا محضًا، يتّسم بسلاسة التّعبير، وإيثار الأسلوب العصريّ السّهل الّذي ينأى عن التّعقيد والجفاف، إذ استطاع الدّكتور أبو أوس أن يعرض مادّة كتابه عرضًا رشيقًا في أسلوب واضح مهيع، وعبارة نقية مشرقة، ومناقشات منطقية تعتمد على الشّرح والتّحليل، مستعينًا بالأمثلة الكثيرة الّتي تساعد على فهم الظّاهرة، واستيعابها كما أنّه كثيرًا ما كان ينظّم النّتائج في جداول متنوّعة تزيد المسائل وضوحًا وبيانًا، وتساعد على اكتساب المهارات وإتقانها.
إنّ كتاب ((دروس في علم الصّرف)) يحمل سمات واضحة للتّيسير والتّبسيط في الدّرس الصّرفي ، والابتعاد عن العسر والتّعقيد والغموض والإبهام، الّتي طالما شكا منها الطّلبة واتّخذوها ذريعة في تسويغ فشلهم في اكتساب المهارات الصّرفيّة.
فهذا المنهج الّذي اتّبعه الدّكتور الشّمسان بمواصفاته الّتي ألمعنا إليها، يجعل الطّالب يتدرّج في اكتساب المعرفة تدرّجًا طبيعيًّا، يبعده عن التّشويش والإرباك والإحباط.
ومع أنّ الكتاب أُلِّف وفق التّصوّر العربيّ التّقليديّ لعلم الصّرف (كما أشار المؤلّف في مقدّمته 5) لم يظلّ أسير دراسات القدماء وآرائهم، بل استفاد من أبحاث المحدثين ودراساتهم، ويتضّح ذلك في كثير من الحواشي الّتي أعقبت فصول الكتاب. انظر مثلًا الحواشي (11، 12، 13، 14، ص 13، ج1) والحواشي (15، 16، 18، 27، ص 25، ج2).
لقد حرص المؤلّف الكريم على الرّبط بين الماضي والحاضر، والقديم والحديث، إيمانًا منه بأن لا حديث بلا قديم، ولا جدوى من قديم يتقوقع على نفسه ولا يتطوّر مع الزّمن ومعطيات التّرقّي الثّقافيّ والفكريّ.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المؤلّف – وإن كان معتمدًا آراء القدامى – لم يسلّم لهم بكلّ شيء، بل كان أحيانًا يناقش آراءهم، ويبين ما فيها من خطل، من ذلك مناقشته رأي ابن مالك في بناء الفعل الأجوف للمجهول (1/74).
ومن مزايا الكتاب توثيق مادّته، فكانت تعقب كلّ فصل حواشٍ تربط المادّة المعروضة بمصادرها، وتحيل عليها بغية إرشاد الطّلبة إلى ما يعمق معرفتهم، ويوسعها، ويزيد من دائرة اطّلاعهم، وقلّما نجد مثل هذا الصّنيع في الكتب التّعليميّة.
ومن الإلماعات الجيّدة في الكتاب، ما نجده من ملاحظات لغويّة دقيقة، ناجمة من حسّ لغويّ أصيل، من ذلك ما ذهب إليه الدّكتور من أنّ اللّغة كاشفة لبيئة مستخدميها، وذلك أنّه وجد ظاهرة التّصغير واسعة الانتشار في بيئة نجد بعامّة وفي القصيم بخاصّة. وردّ ذلك إلى ما كانت عليه هاتان البيئتان من فاقة وشظف عيش، فكان أن عمد السّكان إلى تصغير الموجودات من حولهم تعبيرًا عن قلّتها أو شدّة تعلّقهم بها، كما لاحظ انحسار هذه الظّاهرة مع التّغيّرات الّتي حسنت الأحوال الماديّة (انظر 2/44).
وكذلك نجد في الكتاب إشارات إلى بعض اللّهجات العربيّة المعاصرة الّتي رصدها المؤلّف، مثل ظاهرة الإمالة في لهجة (سدير)، وكذلك ظاهرة النصب (الفتح) في لهجة (الوشم) في مثل (بَيت، عَيش) إذا أبقت على الحركة المركبة، بينما تحوّلت في اللّهجات العربيّة المعاصرة إلى حركة ممالة (انظر 2/177).
وقد عمد المؤلّف الكريم إلى ذكر تفسير بعض الظواهر الصّرفيّة، مثل تفسير إبراهيم أنيس ظاهرة القلب المكاني معتمدًا على الإحصاءات المعجمية الّتي أجريت على الحاسوب (1/41).
وللدّكتور أبي أوس آراء في بعض القضايا الصّرفيّة الّتي كانت موضع خلاف بين الصّرفيّين، من ذلك دعوته إلى جواز النّسب إلى الجمع، فيقول: «وقد نشأت الحاجة في وقتنا الحاضر إلى النّسبة إلى الجمع، مثل (دُوَليّ) نسبة إلى (دول)» (2/76).
ومن ذلك أيضًا إجازته تصغير ما يمنع تصغيره، إذا كان في سياق أدبيّ أو فنيّ، فبعد أن ذكر الأسماء الّتي لا يجوز تصغيرها، قال: ((لكنّ السّياق هو الفيصل في تحديد ذلك، فإذا كان الحديث عن «سبت» بعينه معهود، فإنّه يمكن أن يناله التّصغير في سياق أدبيّ أو فنيّ)) (2/46).
ومع أنّ الدّكتور الشّمسان حاول أن يستفيد من علم الأصوات الحديث في معالجة بعض القضايا الصّرفيّة لم يعمد إلى التّحليل الصّوتي للظّواهر الصّرفيّة، وبخاصّة ظاهرتا الإعلال والإبدال، ولكن كنت أتمنّى على الأخ أبي أوس أن يهتمّ بالتّحليل الصّوتي الّذي يكشف عن نظام اللّغة ووظائف عناصره والأسس الّتي يقوم عليها، فليس هناك ما يمكن من فهم روح اللّغة وفقه أسرارها، مثل ذلك التّحليل الصّوتي، ولعلّ هذا من أهمّ المبادئ الّتي اكتشفتها اللّسانيات الحديثة.
ومن شأن ذلك التّحليل أنّ يثبت صحّة القوانين الصّرفيّة ومنطقيتها. (قارن بما فعله الدّكتور عبد الصّبور شاهين في كتابه (المنهج الصّوتي للبنية العربيّة: رؤية جديدة في الصّرف العربيّ) وخاصّة الصّفحات: 72، 154 – 155، 179، 182، 184، 199)، وانظر أيضًا (الصّرف وعلم الأصوات) للدّكتور ديزيره سقال، وخاصّة الصّفحات 72، 80، 115، 120، 133، 134، 154، 172).
وثمة بعض هنّات، تخضع للمناقشة، من مثل جعله التّاء المربوطة في «بلدة» لتكثير الكلمة (2/17).
وأرى أنّ هذه التّاء لتأكيد التّأنيث، فكلمة (بلد) تذكر وتؤنّث (المصباح المنير «بلد») فعندما تدخلها التّاء تخلّصها التّأنيث.
وفي بحث أغراض الزّيادة، ورد قوله: «وتذكر بعض المصادر النّحويّة أغراضًا أخرى للزّيادة، منها تليين اللّفظ، مثل: عمامة، وصحيفة، وعجوز».
كنت أتمنّى على الأخ الكريم أن يوضّح المقصود بـ(تلين اللّفظ)، ولا سيما والكتاب تعليميّ بالدّرجة الأولى. ولعلّ جعل مثل هذه الزّيادة ل مدّ الصّوت يكون أمثل.
وفي حديثه عن المبنى للمفعول، وردت الجملة الآتية: «لُمت من قبل زيد (1/174).
ومعلوم أنّه متى حذف الفاعل وناب عنه نائبة، فلا يجوز أن يذكر في الكلام ما يدلّ عليه. ولذا لا معنى لإيراد: «من قبل زيد».
** **
أ.د. أحمد مطر العطية - قسم اللّغة العربيّة وآدابها جامعة الملك سعود