إذا عرفتَ الرجل عن قرب كما عرفتُه أيقنت كما أوقن أنّه قيمة خلقية رفيعة وقامة علمية باسقة؛ فهو في الخُلُق نسيجُ وحدِه وفي العلم صانع مجده. لكأنما جمعت له الفضائل والمآثر فحاز أعلاها وأسماها. سَمْحٌ سليم دواعي الصدر؛ لم يحمل لأحد ضغنًا قطّ، بل رزق التماس العذر في الشيم، وكأنّ الشاعر تمثله حين قال:
رُزِقْتَ أسمحَ ما في الناسِ من خُلُقٍ
إذا رزقتَ التماس العذرِ في الشِّيَمِ
منحه الله عقلًا وافرًا يزينه الروية وحسن التأتي والتقدير؛ فإذا تكلم ابتدأ الرأي فأصاب، ووضع الكلام في موضعه فأجاد. وإذا صمت كان صمته ناطقًا برزانة حلمه وشرف نفسه وهيبة سمته.
أبعد الناس عن هوى متبع يميل به عن الحق الذي لا يعرف غيره، ولا يرضى به بدلًا، فإذا اشتبه عليه أمران نظر أيهما أقرب لهواه فنحاه. وهو أبعد ما يكون عن إعجابه بنفسه، على ما له من علم وفضل، لأنه يعلم أنه إن رضي عنها اكتفى باليسير فوقع في التقصير.
لا يبالي بمدح مادح أو قدح قادح؛ لأنه أعرف الناس بنفسه؛ يزنها فيما تأتي وما تدع بميزان الذهب. يُصدِرُ أمره بالحزم ويُمضيه بالعزم مع رأي رشيد، وبصر حديد، وبصيرة نافذة، ونفس مطمئنة راضية.
يومه يومان: يوم تعلم ويوم تعليم. لم يتعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يتصدر به المجالس، بل ملاك الأمر عنده أن يزداد في العلم رشدًا، وفي عَرَضِ الدنيا زهدًا؛ فالعلم عنده رسالة، ومشغلة حياة.
يألف الناس ويألفونه، ويحبهم ويحبونه. يفتقدونه إذا غاب، ويأنسون به إذا حضر. يعرفون قدره ويؤثرون فضله. طيب المعشر، نقي المظهر والمخبر. إذا استنصحته نصحك، وإذا استعنته أعانك، وإذا دعوته أجابك. تعرف فيه صلابة أبناء القصيم، وشدتهم في الحق، وتمسكهم بالأعراف والتقاليد، وقدرتهم على الصبر والجلد، وتمسكهم بالقيم النبيلة، والشمائل الجليلة.
إذا حاورته راعك منه سعة الأفق، وغزارة العلم، وصواب الرأي، وحسن التقدير، ودقة التدبير، والنفاذ إلى الحقائق من أيسر سبيل، والقدرة على التحليل والتعليل، وهو يبدهك دائمًا بما لا تتوقع، ويسمعك ما لم تكن تسمع.
والرجل بهذا وغيره قيمة خلقية يعز لها النظير.
وهو إلى هذا قامة علمية باذخة علت وطالت واستطالت بما قدم للدراسات اللغوية والنحوية من بحوث تقوم على علم راسخ بالتراث اللغوي عند العرب، وبصر حديد بما جد به العصر من نظريات لغوية واتجاهات. ولا يغرنك أن بعض عنوانات كتبه وبحوثه تعالج قضايا عالجها غيره؛ فشتان بين معالجة ومعالجة؛ فحين عرض للجملة الشرطية عند النحاة العرب تناولها على نحو تفرد به؛ إذ تتبع رؤية النحويين لها تتبعًا تاريخيًّا في المراحل الثلاث من تاريخ النحو: التأسيس، والنضج، والتفسير والتقليد، ووضع ملحقًا ضم كل مصطلحات الجملة الشرطية ومكوناتها وأحكامها في التراث النحوي، ورتب ورود كل منها ترتيبًا تاريخيًّا على نحو غير مسبوق، بشهادة علم من أعلام الدراسات اللغوية هو محمود فهمي حجازي. ولم يشغله البحث التاريخي عن النظرة النقدية الواعية لتناول النحويين لهذا النوع من الجمل، ونبه إلى ضرورة الفرق بين الخلاف والاختلاف في آراء النحويين، وتجلى صبره وجلده في إعداد الفهارس، ويكفي أن أشير إلى أن فهرس المحتويات وحده بلغ نحوًا من ثمان وعشرين صفحة.
كذلك فعل في كتابه (الفعل في القرآن الكريم: تعديته ولزومه)؛ إذ صنف الأفعال الواردة في القرآن الكريم وفق إحداثيتين أو قل علاقتين: إحداهما أفقية يطلق عليها اللغويون المحدثون المصطلح syntagmatic relation والأخرى رأسية يطلقون عليها paradigmatic relation، الأفقية تمثل المبنى، والرأسية تمثل المعنى؛ فتمكن بذلك من مراقبة أثر المبنى والمعنى في التعدي واللزوم ودرس علاقة كل منهما بالآخر وما يصيبهما من تغير في سياقات الاستعمال. وقدم موازنة غير مسبوقة بين دراسة تعدي الأفعال ولزومها في القرآن الكريم ودراستها في النحو العربي، وخرج بنتائج بالغة الأهمية. ومن أهم فهارس الكتاب فهرس الأفعال التي وردت في القرآن الكريم وكانت محل الدراسة. وحين رأى ما أصاب أسماء الناس في المملكة من ضيم في موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب – وكان يشارك فيها- بسبب غياب العلم بالثقافة المحلية في الجزيرة العربية دعته همته إلى رفع هذا الضيم فوضع معجمًا لأسماء الناس في المملكة العربية السعودية خالف فيه الموسوعة رأيًا ورؤية، وظهرت فيه قدرته الفذة على التأصيل والتفسير والتصويب، مع دقة وصف، واستقامة منهج؛ فأصبحت دراسة الأعلام بين يديه خلْقًا آخر.
ومن يتتبع ما كتبه الرجل من بحوث علمية رصينة يجده شخصية علمية تأبى أن تجري في عنان أحد، أو تنقاد له، وبحوثه كلها شاهد على ذلك؛ فإن أردت أمثلة واضحة على ما أقول فدونك ما كتب في مداخلاته اللغوية والنحوية، وتصويباته اللغوية، وجدلية الملفوظ والمحفوظ، وفي حسمه الخلاف في مواضعه، وما تفرد به من آراء.
وقد اتسم نشاطه العلمي بإعادة قراءة التراث العربي في ضوء معارف العصر، وما جد به من نظريات واتجاهات؛ وظهرت آثار ذلك واضحة فيما كتب عن لهجات الجزيرة العربية وأسماء الناس فيها، وتحقيق القول في الضاد نطقًا وكتابة، وفي دراسة التأثير والتأثر بين اللغة والمجتمع أو اللغة والحياة، وفي المدخل الصوتي لدراسة النحو العربي، والتغيرات الصوتية في المبني للمفعول؛ وفي التخلص من المتماثلات لفظًا ... إلخ.
وقد أسهم بما له من علم وفضل، وحزم وعزم، في تخريج كوكبة من الباحثين، صنعهم على عينه، وكونهم تكوينًا علميًّا بصيرًا أهّلهم لحمل المسؤولية، وأداء الأمانة، على النحو المرجو منهم.
وظفر مجال تعليم اللغة العربية منه ببحث فريد عن تعلم اللغة العربية وتعليمها في عصر التقنية ووضع كتابا في الصرف العربي التقليدي ومعه كتاب للتدريبات لم يسبق باحث عربي إلى مثله، ورصد ما وقع فيه طلابه من أخطاء في الميزان الصرفي، وبين لهم ولنظرائهم الصواب، وما يزال هذا الكتاب مرجعًا للطلاب والمعلمين والباحثين يفزعون إليه حين يلتبس عليهم شيء في الميزان الصرفي.
ولم يدخر الرجل وسعًا في خدمة المجتمع العربي، على اتساعه، بما شارك فيه من ندوات، ومحاضرات عامة، وورش عمل، وحلقات نقاش، وتحكيم بحوث، وعضوية لجان وجمعيات، وما قدم من شهادات، وما حضر من مؤتمرات. هذا رجل وهب نفسه للعلم فرفع الله قدره، وأعلى شأنه، وأنبه ذكره، وجعله نموذجًا يحتذى للعلماء العاملين. نسأل الله أن يجزيه خير ما يُجزَى به عالم عن علمه وعمله.
والله من وراء القصد، وبه التوفيق، وعليه التكلان.
** **
- د. محمود أحمد نحلة - أستاذ العلوم اللغوية بجامعة الإسكندرية والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة