لا شيء يبدو عليك عسيرًا كمحاولة الكتابة في موضوعات ثرّة المعاني، إنّ الكاتب إذ ذاك تفيض عليه المعاني العظيمة في موضوعه فيظلّ في حيرة الاختيار في أيّها يكتب، وأيّها يترك! وهذا دون شكّ ما كابدته إذ أردت الكتابة عن أستاذنا «أبي أوس» العالِم والإنسان. ولا تغيب عن القارئ لمؤلفات أبي أوس وبحوثه ومقالاته كثير من سمات الرجل العلميّة؛ ولذلك أعرضتُ عن هذا الجانب محاولًا الكتابة في جانب آخر لا يكاد يظهر إلا للقريبين منه؛ أهله وزملائه وطلابه الذين درسوا عليه أو أشرف عليهم. إنّ ممّا تتركه شخصيّة أبي أوس في ذاكرتك إذ تراه وتتعامل معه الروحَ الشغوفة بالعلم والعمل في آن واحد رغم أنّه قد أتمّ الترقيات الممكنة لأستاذ جامعيّ منذ سنوات طويلة، فلم يتوقّف عن المواصلة في كتابة الكتب والبحوث والمقالات والإشراف على الرسائل العلميّة ومناقشتها. لا شكّ أن القراءة والتأليف والبحث لن تنقطع إذا كان الإنسان شغوفًا بالمعرفة وفيًّا لها، ولا أظنّ أبا أوس إلا هذا الرجل. وكان مع هذا الشغف لا تغيب عنه صفة التواضع العلميّ، فلن يجد معاناة وخصومة مع ذاته في محاورة طالب من طلابه، بل شخص مجهول في منتديات الإنترنت حول مسألة علميّة، وقد كنتُ أحد هؤلاء المجاهيل الذين تحاور معهم أبو أوس أيامًا وليالي حين كنّا في شبكة الفصيح قبل أكثر من عشر سنوات، ثم تجده إذا انتهى الحوار أوكاد ختم ردّه بقوله: هذا رأيي أعرضه ولا أفرضه. ولا شكَّ أنّه مدافع صلب عن آرائه واجتهاداته التي يعلنها، ولكنّ هذا لا يعني عدم تراجعه عن رأي له إذا روجع فيه وتبيّن له أنّ الصواب قد جانبه أو أنّ معلومة قد غابتْ عنه، وربّما تمسّك برأيه دون تسفيه لرأي مخالفيه، بل يظهر اهتمامه وتقديره لأيّ اجتهاد. وما زلتُ أتذكّر -إذ نشرتُ تعقيبًا عنوانه (بيني وبين أستاذي أبي أوس) على مداخلتين كان قد نشرهما في زاويته الأسبوعيّة- رسالتَه النصيّة التي أبدى فيها تشجيعه وحفاوته بما كُتِب. وقد كان شديد الانتماء لعمله حريصًا على الوفاء بمتطلباته مهما بلغت تعقيداتها الإداريّة، وقادرًا على التعلّم والتجدّد بروح مقبلة على العمل ولا تعرف التسويف، وجدتُ هذا في كثير من المواقف التي مرّت في مرحلة إشرافه على الرسالة، ولن أقف عند سرعة إعادته الفصول التي حررتها مع كثير من الملاحظات الدقيقة، ولكن أورد شاهدين خاصّين؛ أحدهما إذ أتممت الرسالة بعثت له نسخة نهائية منها فقَبِلَها ثم ختم بنّ هناك بعض الملاحظات الشكلية على إخراج الرسالة أريد أن ترفع من جودتها، فأبلغته أني غير خبير بالحاسوب ولكنّي سأحاول مستعينًا بأحد المختصّين، فقال: إذا جلستَ على الحاسوب اتّصل بي، فلم تنته تلك المكالمة الطويلة حتى أصلحنا العمل، وكان يصلح بعض الأشياء بنفسه إذا تعذّر عليّ ذلك لأسباب تقنيّة. وأما الشاهد الآخر فقد طلبت من زميل أن يحضر إفادة من القسم بعد المناقشة وكنت حريصًا أن أتمّ هذه الإجراءات دون علمه، فأبلغني الزميل أنّه لا بدّ من إمضاء المشرف على الإفادة، فاضطررت أنْ أسأل أبا أوس عن أيام محاضراته في الجامعة، فأجابني ثم سألني عن سبب السؤال فأبلغته بأمر الإفادة، وأنّ هناك زميلا سوف ينجزها ولكن نحتاج إمضاءك، فقال لي: لا تطلب من أحد، سوف تكون عندك غدًا. فكتبها في بيته ثم اعتمدها من القسم وأرسلها.
** **
- د. معاذ بن سليمان الدخيّل