الحديث عن أبي أوس كالحديث عن النخلة؛ إذ تُشبهه في أشياء ويشبهها في أشياء أخرى، فهما مثلًا في الأصالة سواء، وفي البذل سواء، وفي الصبر سواء، لكن جَنَاهُ أدنى من جناها وأدْوَم، وهما كذلك يُتسلقان ويُستظلُّ بظلِّهما، والحديث عنهما وفيهما ذو شجونٍ لا تنقضي.
ليس سهلًا أن تكتب عن أبي أوس، وهذا المقام ليس بكافٍ لذكر خصاله والثناء عليه بما يستحقه، لكني سأذكر خصلتين من خصاله قلَّ وجودهما في جيله وجيلنا.
أولاهما بذل العلم دون مقابل لكل أحد، وهو أمر عزَّ نظيره، وله في هذا الباب شأن عظيم ونوادر طريفة، منها أنني كنت أعتذر منه لإزعاجه في أثناء كتابة رسالتي وهو مشرفها، وعندما أكثرت عليه الاعتذار أخبرني أن لا داعي لذلك، فهو عمليًا يكادُ يُشْرف على طلاب في جامعات أخرى وهو لا يعرفهم، لكنه يُجيب عن رسائلهم، ويُعدل خططهم، ويُراجع فصولهم ويقترح عليهم ما يُفيدون منه من أفكار ومراجع.
وكنّا نتباحث أحيانًا موضوعًا، ثم يمر وقت، فلا أدري إلا برسالة منه فيها مقال أو كتاب أو بحث يتناول موضوعنا الذي نسيته، وكأنه لا يَشْغله غيره! وكنت أرسل له بعض الآراء العلمية التي لا يُعبأ بها، فيرد علي وإن كثُرتْ الردود وطالت، كأنني أعطيه الذي أنا سائله!
ومرة سمعتُه يدعو (للمساهم) بالخير؛ لأنه صوّر كتبه ونشرها في الشبكة مجانًا.
أما خصلته الثانية فموضوعيته وتجرده وتواضعه للعلم والعلماء، وهو أمر لا تخطئه عينك إذا قرأت كتابًا من كتبه، فتراه يتراجع عن قول أو يُثني على آخر لغيره، ومن تواضعه أنه وضع دراسته القيِّمة (تعميم قاعدة النمط) في موقعه وكتب حِذاء العنوان «بتعديل المنيع» والمنيع أحد طلابه، كذلك من لطيف تواضعه أنه طلب من د. معاذ الدخيِّل أن يُقدِّم لكتاب أبي أوس (من شجون اللغة)، ومعاذ كان إذ ذاك طالبًا لمّا يتخرج بعد، وما فعل ذلك إلا لما عَلِمَه من سعة علم معاذ وعمقه.
ومن تجرده أنني في رسالتي كنت أورد أقوال العلماء المُحدَثين في مسائل شتّى، وربما ورد قوله بمسألة ما، فأرد على القول أو أضعفه، وكان يُدقق نصي إملائيًا وأسلوبيًا دون أن يتدخل في رأيي واختياري، على أنني وإياه نعلم فارق العلم بيننا وقلة بضاعتي فيه.
والشواهد على هاتين الخصلتين كثيرة، وهما كافيتان لتعظيم حاملهما، فكيف إن كان بعلم أبي أوس؟!
وهما ما ينبغي للعالِم أن يتحلى بهما، فالعلم لا ينتشر ويزدهر إلا بالبذل والموضوعية، وأستاذنا بهذا قدوة لا يُبارى، وروتينه الأسبوعي ببذل العلم ربما عده الآخرون إنجازًا استثنائيًا ينجزونه كل بضعة أشهر.
والمقام كما أسلفت لا يكفي للحديث عن أبي أوس، لكن من كانت هاتان خصلتين من خصاله فهو عظيم القدر، والإخبار عن محاسنه والثناء عليه قليل وإن كَثُر.
** **
- د. صالح بن محمد الصعب