إذا ما تجاوزت المشترك بين الأساتذة الكبار، من جيل الروَّاد، في المملكة العربية السعودية وغيرها، من السِّير الملأى بالكفاح في التعليم، حتى بلوغ الدرجات العُلا، على الرغم من وعورة الطريق ووحشة المسلك -آنذاك-؛ ومن مسارد المؤلفات والأبحاث التي أثروا بها المكتبة العلمية، ومن قوائم عناوين الرسائل العلمية التي أشرفوا عليها أو ناقشوها، ومن المناصب الإدارية التي تقلدوها في الجامعات وغيرها، ومن الجوائز والشهادات والأوسمة التي نالوها...
وإذا ما تجاوزت كلَّ ما يُنسب إلى كلِّ أستاذ من أولئك العظماء، من تميُّزٍ في الفكر أو المنهج أو العبارة، أو فيها جميعًا، حين يؤلف، ومن تفرُّدٍ في طريقة التعليم، وإدارة الحوار، وإثراء النقاش حين يُعلِّم، ومن تحلٍّ بحلية أهل العلم، من التعبُّد الخالص لله تعالى بالعلم، وخفض الجناح، ولزوم القناعة والسكينة والوقار والمروءة والرفق، وهجر الترفه ومجالس اللغو واللغط، وإطالة التأمل والتثبت، وكبر الهمة وعظم النهمة في طلب العلم، والأمانة العلمية الظاهرة في نقله ومذاكرته، والكرم الفيَّاض في بذله والجود به، والانجذاب إلى مساعدة طلاب العلم والأخذ بأيديهم، والغرام بالكتب، وإرخاص الأموال في جمعها، والانقطاع إليها، وتقديم صحبتها على ملذات الحياة ومتعها...
إذا ما تجاوزت كلَّ هذا المشترك بين الرعيل الأوَّل من الأساتذة، من الخصال التي (ما يلقَّاها إلا الذين صبروا، وما يلقَّاها إلا ذو حظ عظيم)، فإنَّ لأستاذي الأكبر، سعادة الأستاذ الدكتور إبراهيم بن سليمان الشمسان، بعد ذلك كله (باقيًا)، باقيًا تكمن فيه خصوصيته التي أنعم الله تعالى بها عليه، ويكاد ينعقد إجماع كلِّ من تلمذ له على نسبتها إليه، واعتقاد أنه لا منازع له فيها في زماننا هذا. ذلك الباقي هو طاقة (الأبوَّة) التي خلطها الله تعالى بروحه ولحمه ودمه، فاستطاعت أن تتجاوز حدود بيته وأسرته، لتنطلق في الآفاق على مدى عشرات السنين، لتتسع أطنابها كلَّ من تعلَّم عليه من طلاب العلم.
ولأنَّ (الأبوة): (حُبٌّ)؛ ترى الأستاذ الشمسان (حين تكون علاقة غيره من الأساتذة بطلابهم هي علاقة الفم بالأذن، والقلم بالورقة، والمتن بالحاشية): يُقبل على طلابه، في قاعة الدرس، أو في قاعة المناقشة، أو في جلسة الإرشاد، أو في مجلس المؤانسة والمسامرة، أو حتى في المكالمة الهاتفية العابرة؛ فتتفتح له أبواب القلوب مروجًا من القبول والارتياح؛ فيكون لكلِّ كلمةٍ منه وقعٌ نافعٌ في النفوس، يتعالى على السقوط أو النسيان؛ ويكون لكل حضور أو لقاء معه نقشٌ خالدٌ في جدار الذاكرة، يأبى المحو أو التغير، فيخالط بوقعه ونقشه أنفاس طلابه، فما يلبث أحدهم حين يدرس عليه، حتى تراه ولسان حاله يقول قول العباس بن الأحنف:
تتبَّع الحبُّ روحي في مسالكِهِ
حتى جرى الحبُّ مجرى الروحِ في الجسدِ
ولأنَّ (الأبوة): (حرص)؛ ترى الأستاذ الشمسان (حين يخرج غيره من الأساتذة من قاعة الدرس أو قاعة المناقشة أو المكتب، وقد نسي من كان فيها وما كان) مسكونًا بطلابه، لا يخلفهم وراءه بل يحملهم معه، فهم في داخله أيانَ وأينما...، يرعى أعمالهم، ويلقِّح آمالهم، وينشغل بهمومهم، ويسأل عنهم، ويشاطرهم أفراحهم، ويشيد بنجاحاتهم، فلا تجد شبهًا لحاله مع طلابه أقوى من حال مالك بن أحمد بن سوار الطائي، وهو يخاطب ابنه أحمد، قائلًا:
وإني لأخشى أن أموتَ وأحمدٌ
صغيرٌ؛ فيُجفى أحمدٌ ويَضيعُ
ولأن (الأبوة): (إلهام)؛ ترى الأستاذ الشمسان (حين يحرص غيره من الأساتذة على رسم حدود لكياناتهم، وصبغها باللون الأحمر حتى لا تمس؛ حفاظًا على ما يتخيلونه هيبة علمية) قد محا منذ زمن طويل تلك الحدود والخطوط؛ وراح يُلهم طلابه بفعله وقوله وحضوره؛ ليستثير فيهم الإنجاز والإبداع، ولينعش فيهم الأفكار الخلاقة، وليحفز فيهم الطموح الرامي لاستهداف النائي من الآفاق، واقتحام الأُنُف من الرياض، وافتراع الأبكار من الأعمال والمنجزات، فهو كما قال أبو الطيب:
كالبحرِ يقذفُ للقريبِ جواهرًا
جودًا، ويبعثُ للبعيدِ سحائبا
ولأنَّ (الأبوة): (نقاء)؛ ترى الأستاذ الشمسان (حين يعزُّ على غيره من الأساتذة أن يقرَّ لقرين أو تلميذٍ بفضل أو سبق) لا يقر لنوابغ طلابه بالفضل أو السبق حين يحققون منجزات علمية أو إبداعية متفردة فحسب، بل تجده أسعد منهم بما حققوه، يسيل مداد قلمه بذكر حسناتهم، ويتدفق كلامه بجلاء إبداعاتهم، وتعمر مجالسه العلمية بنشر ما منَّ الله به عليهم، ينجحون فيكون له النصيب الأوفى من فرحة نجاحهم؛ فلا يجد الرائي شيئًا يفوق جمال نجاح الطالب إلى فرحة الأستاذ، ويبدعون فيكون له الحظ الأوفر من نشوة إبداعهم، فلا يجد السامع شيئًا يجوز منزلة إبداع الطالب إلا نشوة الأستاذ، في مشهد عظيم لا أجد شيئًا يكاد يحكي جلاله وجماله إلا قول الشريف الرضي:
حكَت لِحاظُكَ ما في الريم من مُلَحٍ
يوم َ اللقاءِ فكان الفضلُ للحاكي
إنَّ ما قلته في الأسطر السابقة عن الأستاذ الشمسان ليس وصفًا صادقًا لشيء من واقعه فحسب، بل هو، والله، شهادة حق أكتبها، والله يسمع ويرى، لا لأجله هو، فقد رفعه الله تعالى عن أن يرجو لما قدمه في حياته العامرة من خدمة العلم وأهله جزاء أو شكورًا، بل أكتبه لنفسي وللأجيال المتعاقبة من المعلمين وأساتذة الجامعات؛ ليكون لنا فيه أسوة حسنة في منهجه الفريد، الذي جعل فيه (الأبوة) بكل ما فيها من الفضائل، مطية لعلمه وتوجيهه وإشرافه ومناقشته وحواره وعلاقته بطلابه، فكتب الله له القبول والنفع والتأثير، حتى غدا مدرسة في العلم والتعليم والحياة، فهو والله كما قال أبو عبادة البحتري:
ما زال يسبق حتى قال حاسده
له طريقٌ إلى العلياء مختصرُ
كتبه بيده الفانية:
** **
أ.د. محمد بن علي العمري - أستاذ أصول النحو بجامعة الملك خالد بأبها