ذات يوم من عام 1984م حضرتُ إلى بيت المشرف على أستاذنا العلامة الدكتور محمود فهمي حجازي لأعرض ما أنجزته من رسالتي للدكتوراه، وكانت عن (البحث الدلالي في مفاتيح الغيب للفخر الرازي). دار الحديث، وأثناءه وقعت عيناي على كتاب ذي تجليد أزرق سميك عنوانه (الجملة الشرطية عند النحاة العرب) ومدون اسم صاحبه عليه: أبو أوس إبراهيم الشمسان. ولما كان أحد فصول رسالتي للدكتوراه بعنوان (التركيب الشرطي) فقد استأذنت أستاذي الدكتور حجازي لاستعارة هذا الكتاب الأزرق. فإذن لي بعد أن قال: رسالة جيدة فيها جهد كبير! ثم أخبرني أنها رسالة كانت بإشرافه؛ فأدركت أن اشتراكنا في انضواء رسالتينا تحت إشرافه جامعٌ وآصرةٌ بيني وبين صاحب الرسالة. ولعل ذلك ما جعلني أشعر لحظتها بقيمة معنوية مضاعفة لتلك العبارة الواصفة الوجيزة (رسالة جيدة فيها جهد كبير!). وبعد أن قرأت رسالة الشمسان أيقنتُ كم كانت عبارة أستاذنا دقيقة إلى أبعد حد! لقد وضع الكلمة/ المفتاح التي قد لا تكون ثمة كلمة أخرى تصف – على وجه الدقة والشمول- كل عمل قدمه الشمسان: إنها كلمة (الجهد)!
ومع هذه الرسالة، ثم بعد ذلك مع أعمال أخرى للشمسان، وبعد أن جمعتنا أسعد الأقدار بأن نعمل معًا في قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود لمدة خمسة أعوام، عاينتُ في الشمسان انطباق وصف ابن الرومي:
لا يعتريه الأَينُ والسآمُ
كأنما الجهدُ له استجمامُ
وبالأحرى عاينتُ قول أبي تمام:
وَمَتى حَلَلتَ بِهِ أَنالَك جُهدَهُ
وَوَجَدتَ بَعدَ الجُهدِ فيهِ مَزيدا
مُتَـوَقِّدٌ مِنهُ الزَمانُ وَرُبَّما
كانَ الزَمانُ بآخَرينَ بَليدا
ومن ينظر مثلًا في كتاب الشمسان (مساحة لغوية)، ويقف على المسائل البالغة الرهافة التي وقف إزاءها بتدقيقه وتحريه وتنقيبه، فإنه يجد الشاهد تلو الشاهد على ديدن الجهد الذي يتصف به هذا الجليل.
بيد أنني أتصور أن هذه المنقبة الجليلة نفسها هي البوابة المفضية إلى المناقب الأخر في شخصية الشمسان. وهنا تأتي في الصدارة سمة أسلوبية ذات تواتر ملحوظ عند الشمسان. وأعني بها اختيار التعبير بـ(أستاذي) عندما يتحدث عن أي فاضلٍ من العلماء قدّم له يدًا في التكوين العلمي. فهذا الربط الذي يختار فيه أن يضيف نفسه إلى أستاذه، وأستاذَه إلى نفسه، إنما هو مؤشر ذو مغزى في إقامة علاقة التضايف الحميميّ بينهما، وكأن وجود الأول (الأستاذ) سببٌ لوجود الذات المتكلمة، أو كأنها إشارة إلى أن هذا الأستاذ أفرغ أستاذيته وأمحضها لهذه الذات المتكلمة تحديدًا. ومن ثم فتأكيد انتساب الذات إلى أستاذها إنما هو تأكيد العرفان والامتنان.
ثم تأتي منقبة (الرحابة الفكرية). فمن يبذل الجهد الحقيقي يدرك قيمة بذل الآخرين لجهدهم. ولعلك تجد ذلك في الشمسان بما يجعله خارج عنت كثيرٍ من النحويين، أو فقهاء اللغة، الذين يخشون من بوار ما استظهروه من قواعد، وما حفظوه من معايير. خذ مثلًا قول الشمسان «يغفل القائمون على التصحيح ظروف التراكيب والاستخدامات اللغوية التي يقومون على تقويمها. فما يرونه من قبيل المخالفة اللغوية قد يكون له أسبابه الخاصة التي لا تجعله ظاهرة لغوية عامة... وقد نجد أن ما يظنه المصحح اللغوي خطأ - لأنه يقيسه على استخدام سابق- هو من قبيل التطور اللغوي، والاحتياج إلى معنى جديد...». والحقيقة هي أننا نخسر كثيرًا في توجهنا اللغوي، وفي تخطيطنا اللغوي، إن لم نجعل المعنى- كما أكد الشمسان هنا، وفي غير هنا- هو الذي له الصدارة في الرؤية، وفي الأداة.
ولا شك أن حديث المناقب يطول مع أبي أوس.. العالم الجليل الذي أحبه وأحترمه!!
** **
- د. محيي الدين محسب