قد يتعثر القلم في نقل المشاعر والأحاسيس تجاه أستاذي أبي أوس، ويَقْصُر عن بيان ما ارتسم في ذهني وانحفر في ذاكرتي من مواقف ودروس تشكلت في عدة محطات؛ أولها في تدريسه لي في السنة التمهيدية من مرحلة الدكتوراه، وثانيها: في إشرافه على رسالتي للدكتوراه: (بناء النظرية النحوية العربية دراسة في الاتساق والشمول والبساطة)، وثالثها: في لقاءات واجتماعات خاصة. ولكنْ حسبي هنا إشارات وإلماحات إلى شيء مما رأيته في شخصية أبي أوس وتعلمته من صفات إنسانية وسمات علمية.
ويتصدر سماته الشخصية تلك العلاقةُ الحميميةُ التي تنشأ بينه وبين طلابه، وتجعل صلته بطلابه مستمرة حتى بعد انتهاء التدريس لهم أو الإشراف عليهم، وقد أوجد هذه العلاقة -في نظري- ذلك التواضعُ الجمُّ الذي شمل كل مظاهر حياته؛ كلامه وهيئته وتعامله، داخل القاعة الدراسية وخارجها، وأوجدها ذلك التروي والحكمة والهدوء الذي يتحلى به العلماء، كما أوجدها البذلُ والسعي في تيسير أمور طلابه وإزالة ما قد يعيق مسيراتهم الدراسية، فتراه يتنقل في مباني الجامعة ومكاتبها لينجز إجراء إداريا لأحد طلابه، وتراه يحمل في سيارته الكتب ليوصلها إلى أحد طلابه، وغيرها من الصور ومواقف البذل، ولا أنسى ذات مرة -وكنت طالبا- هاتفني قرابة الساعة يستعرض الكتب التي في مكتبته ليعيرني منها ما يناسب الفكرة البحثية التي أريد أن أبحث عنها، وبعدما اخترت مجموعة من الكتب بعثها إليَّ في القصيم.
لم ينقطع أبو أوس عن العلم وظلَّ وفيَّا لتخصصه، مجددا للمعرفة اللغوية التي يحملها، مزكيَّا لها بالكتابة والتأليف واللقاءات العلمية، أفدت منه في كتابة رسالة الدكتوراه، وتجلت لي جوانب من شخصيته العلمية والبحثية، أذكرُ منها: أولا: عمق الملاحظة ودقتها في البناء والصياغة للجمل والتراكيب، وله تنبيهات دقيقة ولفتات عميقة في عبارات وجمل شاعت بين الباحثين المعاصرين. وكان يعيب المبالغة في استعمال المصطلحات الأجنبية أو التكلف الذي قد يعقد الفهم، وينادي بوضوح العبارة واستبعاد الحشو من الكلام والتكلف في التعبير.
ثانيا: يمنح طلابه الذين يشرف عليهم حرية واسعة في طرح آرائهم، ويؤكد أنه لا يفرض عليهم رأيه، لذا لا أتحرَّج أبدا في أن أبقي رأيي المخالف لرأيه.
ثالثا: في تعامله مع الاختلاف العلمي يذكر رأيه مقرونا بالدليل والتعليل، وتخلو عباراته وأحكامه من مبالغة أو حِدَّة أو تسفيه أو إنشائية في الأحكام تُخْرِجُ عن العلمية، خاصة في أحكامه على النحو العربي القديم. ولذا لا تجده متعصبا للقديم أو للحديث ولا متعصبا ضدهما.
رابعا: توقفت آراء بعض الباحثين المعاصرين عند نقد تفسيرات النحويين لظواهر في اللغة العربية دون أن يقدموا تفسيرا بديلا عنها، وهذا بحسب نظرية العلم يبقي تفسير النحويين الأقوى والأنجعَ لعدم طرح البديل، لكنَّ أبا أوس عندما خالف تفسيرات النحويين لبعض ظواهر اللغة أوجد تفسيرا شاملا بديلا عنها، يظهر ذلك جليَّا في تفسيره لحركات الإعراب في بحثه: تعميم قاعدة النمط. وفي بعض التفسيرات الصوتية للإبدال والإعلال.
** **
د . إبراهيم بن سليمان اللاحم - عميد كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية بجامعة القصيم