تقديم المترجم: هنا ورقة للمستشرق الألماني الشاب الدكتور مانفريد سينغ، نشرت في أبريل 2016. ولد الدكتور مانفريد سينغ في عام 1966 في أولندورف، بادن فورتمبيرغ، ألمانيا. ودرس الدراسات الإسلامية وعلم الاجتماع والتاريخ في جامعة فرايبورغ وجامعة دمشق خلال 1994-2000. وحصل على الدكتوراه عام 2005 في الدراسات الإسلامية في جامعة فرايبورغ الألمانية. وعمل محاضرا في جامعة فرايبورغ خلال 2005-2007. ثم نفذ «مشروع ما بعد الدكتوراه» خلال 2007-2008 بعنوان «إعادة توجيه (REORIENTATION) اليساريين العرب في الشرق الأوسط بعد عام 1989». كما عمل باحثا مشاركا في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت خلال 2009-2012. ويعمل، منذ فبراير 2013، عضوا في هيئة التدريس في معهد ليبنيز للتاريخ الأوروبي، ماينتس، ألمانيا. ونود أن نشير إلى أن المؤلف يستخدم مصطلح «دمقرطة» ليعني «عملية التحول الديمقراطي».
مقدمة
مع انهيار الشيوعية السوفيتية، انتصرتِ الليبرالية ليس فقط باعتبارها لغة سياسية؛ ولكن، أيضا، بوصفها فلسفة للتاريخ. وتفحص هذه الورقة أساسا أمثلة من لبنان وسوريا، لإظهار ردود الفعل متعددة الأوجه للشيوعيين والماركسيين العرب السابقين على هذا التحدي، ونحدّد مساراتهم من نهاية الستينيات حتى يومنا. والفرضية المركزية هنا هي أن الماركسيين العرب اقتبسوا بشكل متزايد مصطلحات ليبرالية، وأنه نظراً لكون الماركسية أصبحت مهمشة في الحقل السياسي، هاجر العديد من الشيوعيين الحزبيين السابقين ليس فقط إلى تيارات سياسية أخرى؛ ولكن، أيضا، إلى نشاطات ثقافية.
ويتكوّن تاريخ الماركسية في العالم العربي من عملية طويلة ومتعددة المراحل، من زمن ما قبل البلشفية إلى بزوغ اليسار الجديد بعد 1967-1968، وإلى مراجعة تجارب ما بعد 1990. (1) ولم يشكل الشيوعيون والماركسيون وحدة مطلقاً. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، أصبح من الضروري على «ما بعد الماركسيين» إما محاولة توحيد اليسار الواسع أو البحث عن حلفاء سياسيين محتملين بما في ذلك الليبراليين والإسلامويين. (2) وفَرَّقَ المفكر البروفيسور ستيوارت سيم (الأستاذ في جامعة نورثمبريا البريطانية ومؤلف كتاب «ما بعد الماركسية: تاريخ فكري») بين نوعين من «ما بعد الماركسيين». فمن ناحية، هناك «ما بعد الماركسيين» الذين مجرد يرفضون الزعم بأن الماركسية تمثل الحقيقة المطلقة. ومن ناحية أخرى، هناك «ما بعد الماركسيين» الذين انتقلوا إلى «التعددية النظرية» (الجمعوية)، أي تأكيد وقبول التنوع بكافة أشكاله. (3) وأما المفكر الملحد الراحل كريستوفر هيتشنز، فقد كان يفرّق بين اليسار الذي يعطي الأولوية لمناهضة الإمبريالية واليسار الذي يعطي الأولوية لمناهضة الشمولية. (4)
ماركسية متزمتة مقابل ماركسية متحررة
ولتسليط الضوء على تعقيد التشكيلات «ما بعد الشيوعية» في الشرق الأوسط، يبدو من الملائم أن نميز بين نوعين من «ما بعد الماركسية» في الحياة السياسية وكذلك في الحقل الثقافي؛ أحدهما أكثر تزمتاً، والآخر أكثر ليبرالية. ومن الناحية السياسية، يتمسّك «الماركسيون المتزمتون» في لبنان وسوريا بانتقاداتهم للرأسمالية والإمبريالية والصهيونية. ومن الناحية العملية، فإن هذا التوجه يعني أنهم يدعمون الدولة في سوريا وحزب الله في لبنان. وبعكس ذلك، يسعى خصومهم «الماركسيون التحرريون» أو الماركسيون «المتلبرلون» إلى تعزيز وتقوية مؤسسات الدولة في لبنان والمجتمع المدني في سوريا، ويشمل ذلك التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين السورية. (5)
وفي الحقل الثقافي، يمكن أن يُنظر إلى «ما بعد الماركسيين» بأنهم مثقفون يطفون على سطح المشهد الثقافي، بدون انتماءات حزبية واضحة. هناك بعض الكُتّاب ترتكز نصوصهم على الأفكار الماركسية اليوم، في حين أن آخرين يعتبرون أنفسهم نقاداً «ليبراليين» بالمعنى الأمريكي للكلمة، والفئة الثانية غالبا ما يصفهم خصومهم بازدراء كـ«ليبراليين جدد» (نيو ليبراليين) بسبب مناصرتهم للمجتمع المدني و«انتقادهم للإسلام السياسي». وتجادل هذه الورقة أن تفاوت الانسجام والتناغم بين هذه الماركسيات المختلفة مع جوانب ليبرالية يحدده مسار التاريخ، والتشكيلات السياسية، والتنافس بين الجماعات السياسية، وكلها مفتوحة لإعادة التفسير من قبل الجهات الفاعلة.
النقاش العربي حول فوكوياما
ولغة اليسار المخاتلة
الماركسية والليبرالية ليستا أيديولوجيتين مكتفيتين ذاتيا؛ ولكنهما مدرستان فكريتان تتناقضان جزئيا، وتتداخلان جزئيا. كلاهما تتفقان، على سبيل المثال، على مصطلحات «التحديث» و«التقدم» و«المساواة»؛ ولكنهما تختلفان على نوع العمل الجماعي الذي ينبغي اتخاذه لتحقيق مضمون هذه المصطلحات. واعتاد الماركسيون الدفاع عن النضال السياسي، لمحاربة الهرمية الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي بِالإجْمال. ويدعو الليبراليون إلى عقد اجتماعي لتأمين «الحرية»، وتنظيم المنافسة لصالح الجميع. وفي هذا الصدد، تعارض نظرية الاستغلال الماركسية نظرية العقد الليبرالية بطبيعتهما بعضهما بعضا.
وبشكل عام، كان موقف الماركسيين تجاه الليبرالية دائما ذا وجهين. فمن جهة، افترض الماركسيون أن العقود، من الدساتير وحقوق الملكية إلى حقوق الإنسان، هي مجرد إخفاء للطابع الطبقي للترتيبات الاجتماعية-السياسية. فقد كان ماركس وإنجلز مقتنعين بأن «البرجوازية الليبرالية» غير قادرة على تحقيق التقدم، بالرغم من كونها المحرك الأساس للرأسمالية. ولم تهدف الليبرالية إلى تحرير المجتمع؛ ولكن لإخفاء مصالح البرجوازية وراء تعابير جوفاء. وتردد صدى مثل هذا النقد عندما صرحت ماري الدبس، نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، في سياق انتفاضات الربيع العربي عام 2011: «الإصلاح البرجوازي للنظام العربيّ الحالي مستحيل». (6) وإذا كانت الأنظمة البرلمانية، وفقا للنقد الماركسي، لا تناقش ولا تغيّر حقوق الملكية، فإن قبول «ما بعد الماركسية» لمركزية الديمقراطية ينطوي على قبول ضمني للرأسمالية. (7)
يتبع
** **
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com