الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
فرضت المشكلات الأسرية نفسها على واقعنا الاجتماعي كالعنف الأسري وعقوق الوالدين وغيرها، وازدادت تلك المشكلات بوصولها المحاكم وانتشارها في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. ولا شك أن هناك ثمة أسباباً وراء تفاقم ذلك في المجتمع المسلم، وهل الحاجة تدعو إلى ترسيخ مكارم الأخلاق في المجتمع في ظل الانفتاح الكبير الذي نشهده في كافة المجالات؟ «الجزيرة» طرحت تلك القضية على عدد من الخبراء والمختصين، وكانت رؤاهم كالتالي:
الفقر والبطالة
بداية يبيّن الدكتور عبد السلام الوايل -أستاذ مساعد بقسم الاجتماع بجامعة الملك سعود بالرياض- أن أسباب تزايد المشكلات الأسرية عديدة ومتشعبة بالطبع، ثمة أسباب تتعلّق بالعنف الأسري تختلف عن تلك المتعلقة بعقوق الوالدين. ففيما يخص العنف الأسري مثلا تلعب التنشئة الاجتماعية دوراً في ذلك، الأطفال الذكور الذين كان آباؤهم يمارسون العنف مع أمهاتهم أكثر ميلاً لممارسة العنف مع زوجاتهم عندما يكبرون.
إنها مسألة تعود أو فهم أن هذا الأمر «طبيعي». لذا، يكثر العنف الأسري في ثقافات ويعاد إنتاجه عبر الأجيال. ويمكن لأسباب أخرى، مثل: الفقر والبطالة، أن تلعب أدواراً.
وفيما يخص المجتمعات الانتقالية تلعب عملية التغيّر في الأدوار داخل الأسرة واعتبار الذات العالي للمرأة، وعدم تقبل البعض لتصاعد إحساسها بذاتها وفرديتها أدواراً في نشوب صراعات وظواهر عنيفة داخل الأسرة الواحدة، أما عقوق الوالدين فالذي يظهر أن مجتمعنا متماسك فيما يخص هذه المسألة، فاحترام الأبناء لوالديهم لا يزال إحدى السمات المميزة لنا مجتمعاً وثقافة في عالم اليوم.
مشكلات خطيرة
ويشير الدكتور عبد الرحمن بن سعيد الحازمي -عميد الأكاديمية العالمية للدراسات والتدريب في رابطة العالم الإسلامي- إلى أن الإسلام اعتنى أيما اعتناء بتكوين الأسرة وتنظيم علاقاتها المختلفة بين الأبوين بإيضاح دور كل واحد منهما تجاه الآخر وتحديد الحقوق والواجبات والمسؤوليات بينهما وحدود علاقتهما ومسؤوليتهما المباشرة في تربية الأولاد وتنشئتهم تنشئة إسلامية متوازنة.
ونظراً للقصور الواضح من المؤسسات التربوية المختلفة منذ سنوات خلت في بيان هذه المسؤوليات وتوضيح الحقوق والواجبات لمكونات الأسرة ظهرت مشكلات خطيرة متنوّعة بين الزوجين بلغت حد الطلاق من جهة، وبين الزوجين وأولادهما من جهة أخرى بلغ مداها العقوق نسأل الله السلامة والعافية، وكان نتيجة ذلك ازدادت نسب الطلاق إلى درجات مخيفة وما يتبعه من سلبيات، وتطور انحراف الأولاد في مجالات مختلفة أخطرها العقوق والمخدرات والتسيّب الدراسي مما ينذر بحدوث تصدع اجتماعي كبير له تأثيراته السلبية على محيط الأسرة بالتحديد وعلى كافة المجتمع.
ولذا يجب على قطاع التعليم الاهتمام والعناية بإعداد مقررات دراسية تعنى بالأسرة والمحافظة عليها، وتعنى بجانب ترسيخ القيم والأخلاق الإسلامية الفاضلة في نفوس الناشئة والشباب، والعناية بإعداد برامج تربوية مختلفة مدروسة بعناية فائقة تتعاون فيها كافة المؤسسات التربوية بدء من المدرسة والإعلام والمسجد والنادي لبيان أهمية ومكانة الأسرة في الإسلام وتحديد واجبات ومسؤوليات كل عضو فيها.
وأرى من الأهمية بمكان العناية بتأسيس مكاتب استشارات أسرية مجانية يقوم عليها متخصصون تربويون وشرعيون على درجة من الخبرة والعلم الراسخ بإشراف ولاة الأمر - وفقهم الله -تعنى بالجانب الأسري والمحافظة عليها ومعالجة مشكلاتها أولا بأول قبل استفحال الأمر.
نسأل الله أن يديم على بيوت المسلمين المودة والرحمة والاستقرار والسعادة، وأن يصلح أولاد المسلمين ويوفقهم لما فيه الخير والصلاح.
تغيرات سلوكية
ويؤكّد الدكتور أحمد بن حسن الشهري -كاتب وأكاديمي- أن الأسرة المسلمة ظلت علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإسلامية كملهمة لدعاة الأخلاق والقيم الذين وجدوا في هذه اللبنة منبعاً ثراً لدراسات القيم والمثل التي أنارت للعالم دياجي الظلم والعتمة التي خيمت قروناً طويلة على مجتمعات افتقدت البناء الأسري القويم، ولا شك أن هذه الأسرة المسلمة قد تعرضت في مسيرتها المديدة لكثير من المتغيّرات والعواصف التي هزت كيانها وعصفت باستقرارها سواء ما كان منها حتمي مثل ثورة الصناعات الحديثة وتقنية المعلومات التي أفرزت الكثير من السلوكيات الجديدة التي أصبحت بمثابة الناقوس الذي يدق باب هذه الأسرة الحالمة! أدت هذه الثورات الاتصالية إلى الانفتاح على المجتمعات الأخرى ذات الثقافات والتقاليد المختلفة، وأدت إلى تدفق معلوماتي ضخم دون وجود حارس بوابة يسمح بالمقبول ويمنع المرفوض فقد تم عزل هذا الحارس منذ أمد حين لم تعد الدولة تمارس دور الأب الذي يختار لأبنائه ما يشاهدون وما يقرأون، حيث إن هذا التدفق أصبح يتسلّل من أبواب المنازل وأسطحها ونوافذها دون استئذان من أحد أو المرور على عامل القيم والمثل لعرض ما لديهم عليه قبل تدفق ما لديهم! هذه التدفقات كانت خليط من المبادئ والقيم والشحن القيمي والأخلاقي والديني والمذهبي والفكري. ودون أن يكون هناك قاعدة صلبة لفلترة هذه التدفقات من قبل النشء وهو المستهدف الأول بهذه التدفقات فقد وجدت هذه التدفقات أرضاً رخوة استطاعت أن تعشعش فيها وتفرخ على الأغلب وليس على الكل. ولذلك رأينا في مجتمعنا السعودي تقلبات إن لم أقل انقلابات جيلية فجيل السبعينات يختلف عن جيل الثمانينات كما جيل التسعينات والجيل الحالي مختلفان جذرياً. فمثلاً لم يؤثّر في الأجيال الماضية عقوق الوالدين. والطلاق كان يعد جريمة اجتماعية لا يجرؤ عليها أحد. بينما جيل اليوم يمارس الطلاق بكل أريحية والمطلقة تقيم حفل طلاق تدعو له الصديقات والزميلات ابتهاجاً بهذا الحدث المفرح لها! والكارثي لمن سبقها من جيل الطيبين! في الجيل الماضي لم يكن في قاموس الآباء والأمهات والأخوال والأعمام أن يأتي أحد من الأبناء ليطلق عليهم النار أو يضربهم بالعصا! في جيل الطيبين كان قول أحمد شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
جيل اليوم ضرب المعلم واقتحم المدرسة وكسر سيارة المعلم وشج رأس المدير! جيل الأمس كان إذا رأى المعلم من بعيد يهرب هيبةً وتقديراً واحتراماً وجيل اليوم يطارد المعلم! هذه التغيّرات السلوكية التي ظهرت في الأسرة اليوم كان لها محفزات سلبية ساعدت الأسرة نفسها على استنباتها: مثل جلب الخدم والسائقين والتوسع في استخدام وسائل التقنية الحديثة دون ضوابط أو مراقبة! محفز آخر مهم وهو انشغال الأم وخروجها للعمل أدى إلى بروز البديل غير الأمين مثل الخادمة أو المربية أو السائق الذين أثبتوا أنهم البديل الخطأ! محفز أكثر خطورة وهو الإعلام الموجه من الخارج مخصوصاً لهذه البلاد من أجل تفكيك الأسرة مصحوباً بحرب شعواء لتهريب المخدرات بأنواعها وضرب الأسرة في مقتل، حيث إنه إذا سقط أحد أفراد الأسرة في وحل المخدرات سهل تفكيك وتضييع الأسرة بأكملها! محفز أخطر وأبشع من سابقيه وهو تمكن دعاة التطرف والإرهاب إلى التسلّل للأسرة واصطياد أحد أفرادها سواء كان الابن أو الابنة أو الزوج أو الزوجة مما أدى إلى خلل في البنية التكوينية للأسرة وفقدان زمام التراتبية القيمية للوالدين والإخوة والأخوات.
الدين والوطنية
ويضيف د. الشهري قائلاً: بل تعدى هذا الفقدان إلى فقدان أهم ثابتين تقوم عليهما الحياة الحديثة وهما الدين والوطنية! نجح المتسلّل العدو إلى اصطياد ضحاياها فيسلبها هذين الثابتين فيتحول هذا الفرد إلى قاتل سفاح مكفر لدولته نازع بولائه إلى عدو الوطن. هذه بعض من الظواهر والطوارئ التي عصفت بالأسرة السعودية وهي بلا شك عواصف عاتية نجحت إلى حد كبير في خلخلة كثير من الأسر والأفراد شاهدناه في أعداد ليست قليلة في مواطن الصراع أو ضمن خلايا الإرهاب التي تضرب الوطن أو ضمن ضحايا المخدرات الذين لم يعد لهم مستقبل ولا أمل! أمام هذا الوضع أعتقد أن على المجتمع السعودي بكافة أطيافه ومراتبه وهيئاته الحكومية والمدنية أن يقوده ثورة مجتمعية لإنقاذ الأسرة وإعادتها إلى سابق عهدها لبنة في جدار المجتمع. المطلوب أن تسن أنظمة وتشريعات صارمة لحماية الأسرة من التفكك لا بد من وقفه حاسمة أمام التدفقات الإعلامية غير المنضبطة وخاصة من وسائل إعلامنا، ولا بد من مشاريع مجتمعية ضخمة لتعزيز اللحمة الوطنية وحماية المواطنة من تغوّلات الأعداء، ونحتاج إلى حملات مستمرة للتوعية من أضرار المخدرات وأضرار الإرهاب والأفكار الضالة المنحرفة، ولا بد من إعادة النظر في المناهج التي افتقدت الكثير من المنظومة القيمية خلال فترات التحديث التي مرت بها ولم توفق هذه التحديثات في وضع المناهج المستنيرة التي تبقي على تقوية الوازع الديني والأخلاقي واللذان هما سنام الأمر ورأسه وتقوية ثوابت الوطنية ونبذ العنصرية والطائفية والمذهبية، وترسيخ قيم الوحدة والتسامح والاعتدال ونبذ التطرف والإقصاء.
وإذا كانت المجتمعات التي عانت من التفكك والانحلال بدأت ترفع شعارات تضمد بها جراحها مثل: يوم المرأة ويوم الأب ويوم المعلم وهكذا يختصرون الأسرة في أيام قد يلتقي الأب بابنته لتقول له كيف حالك؟ إذاً فلنرفع شعار الإسلام الذي جعل المسلم يحتفل ويحتفي على مدار العام بأمه وأبيه وأخته وزوجته ومعلمه. مستلهماً كل هذه القيم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قلة التوفيق
ويذكر الشيخ سامي بن إبراهيم العُمري -القاضي السابق بوزارة العدل- أنه قد لاحظ في مثل هذه الأيام ما نبهتم إليه من ظاهرة تفشي المشكلات الأسرية وفق المتغيّرات الحديثة لتركيب المجتمع الأخلاقي، فنتج عن ذلك عنفاً أسرياً وقطيعة رحم بل تجاوز ذلك إلى عقوق الوالدين. ولجأ الناس وهم مكلومون إلى المحاكم وفزعوا إلى الإعلام بجميع أنواعه ووصلت مشاكلنا عبر قنوات التواصل الاجتماعي فيا ترى ما هي الأسباب وما هو العلاج في المنظور الذي يراه الشارع الحكيم فلعلي أرجع الأسباب إلى سبب عظيم؟ ألا وهو قلة التوفيق فالشخص الذي يصل إلى هذه الحالة من عدم التوفيق الأسري أو الاجتماعي وعدم القبول ولربما وصل به الحال إلى عقوق الوالدين وظلم الناس وحجب حقوق البشر وترك واجباته تجاههم فذلك الضلال وسوء التوفيق الإلهي، وقد يكون لسوء أضمره في نفسه وسواد قلب أخفاه في جسده فحرمه الله القبول وحب الناس وقد حرم لذة الأنس في الدنيا، ومن الأسباب ضعف الديانة في القلب، والجهل بالعواقب والحوافز، وفي نظري أن غياب القدوة الصالحة في حياة كثير من المقصّرين سبب مهم جداً لما آلت إليه تلك الأوضاع السيئة.
وأما الحلول فلعل من أقواها إصلاح ما فسد من القلوب بالدعاء لها بالصلاح ومحاسبتها وترميمها بكتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وتتبع سير العظماء عظماء القلوب الصافية كالأنبياء على رأسهم سيدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العلاج خلق القدوة الصالحة التي تعمر الأخلاق من نعومة الأظفار والصغر ويأتي الدور الكبير للوالدين والمربين والمعلمين وانتشار روح التواصي بين الناس، ويحتاج المجتمع إلى مقارنات بين النماذج حتى يتبيّن الحق من الباطل، فإننا بحاجة ماسة إلى ترسيخ أخلاقيات الإسلام ومصالح التعامل السوي للبشرية التي فُطر الناس عليها، فالعقوق تطرف وقطيعة الأرحام تطرف وكره الناس واحتقارهم تطرف ويا ليت الناس يلجأون إلى الله ويفرون إليه في دنياهم ومماتهم حتى يفوزوا بالنجاح الدنيوي والفوز يوم القيامة.